رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب : موسيقى المشي

ــ الطريقة الوحيدة لكشف أكاذيب السياسيين هي رواية قصصنا. * خوان غابريل فاسكيز، روائي كولومبي.
كما أن نوع وحجم أقفال المنزل وكاميرات المراقبة تعكس درجة الأمان والخوف والنظام السياسي، كذلك ارتفاع وانخفاض السياج واذا كانت الحديقة في الامام تعكس مستوى الانفتاح او في الخلف وكذلك الشرفات الامامية او الخلفية للحشمة . المكان ليس ديكوراً بل ثقافة.
الذين يبحثون عن النظام السياسي في الخطابات والبرامج والقوانين والحفلات لا يعثرون على شيء حقيقي لان النظام في مكان آخر، في طعام حقائب الأطفال في الطريق الى المدرسة وفي وجوه المتقاعدين الذابلة في انتظار الراتب في الزحام في صيف مهلك او شتاء بارد، في طفلة تبيع مناديل في الساحات العامة وتنام تحت ظل شجرة من الشمس، من حديد شبابيك الجدران الخارجية.
النظام السياسي موجود في المناهج المدرسية وفي علاقات الناس،
وفي أطفال المزابل ونوافذ المدارس المكسرة في الشتاء، في عقول الأساتذة والمربين وفي خطابات الجوامع:
النظام الحقيقي ان تكون انت في الداخل كما في الخارج لا مجمّع شخصيات ولغات وأدوار وأقنعة. النظام السياسي في نفايات الشوارع وتلال الازبال والنفاق الثقافي والادبي والتمادح المتبادل الكاذب بين الادباء ، وفي وجوه الارامل واليتامى وكبار السن الذابلة، في العيون القلقة للشباب والشابات،
وفي الوجوه المنتظرة خلف النوافذ كزهور ذابلة. حتى وزن الموتى يعكس النظام الاقتصادي بتعبير كارل ماركس.
يمكن للسلطة خداع كل الناس لكنها تفشل مع الدفان الذي يعرفها من وزن الميت ومن نوع المشيعيين ، فقراء أم أغنياء، ومن نوع الموت: قتلى حروب واغتيالات أم موت طبيعي.
النظام موجود في كأس حليب تشربه في الصباح بكل هناءة، وفي أغنية تسمعها وأنت جذل،
في دفتر الضمان الصحي والاجتماعي وفي ضمان حياة الاطفال من الولادة
حتى اليوم الأخير.
النظام قاضي تشتكي منه عنده ورئيس دولة تلتقيه في الشارع وتصافحه كصديق لا موكب زعيم عصابة وخلفه طابور مسلح يراقب المارة.
كان الرئيس التشيكي السابق فاتسلاف هافيل وهو كاتب مسرحي ومفكر وسجين سابق في النظام الشيوعي عندما يمر في الشارع في موكب يستدير الناس عكس الشارع نحو المحلات وعندما سأل عن السبب قالوا له يعتبرون موكب الدراجات إهانة وتمايزاً، ألغى الدراجات.
النظام السياسي القهري يمارس كل لحظة عنفاً خفياً ضد الناس سواء بالكذب أو القلق من القادم أو من نشوب صراع أو حرب أو اخفاء حقائق أو استعمال الاعلام كوسيلة خداع. هذا عنف سري مدمر. مجرد أن يتذكر الانسان السلطة صباح مساء هو تعذيب نفسي بتعبير أرنست همنغواي.
النظام السياسي في بوسة العريس أول زفته لعروسته، لا حملة بنادق ورصاص خلفه،
النظام السياسي في سرير الوفاء المقدس لا ملعب زبائن كلما سنحت الفرصة، في سلة التسوق وفي البطاقة المصرفية وفي الجيوب مليئة أم خاوية وفي مشهد أطفال يلعبون فوق تلال نفايات.
السلطة في قدح شاي تشربه في مقهى بكل أمان، في كتاب تشتريه من مكتبة لا من مكتب أمن مموه. النظام موجود في وصفة علاج تشتريها،
وحذاء تشتريه دون احتضار وحساب ماذا سيبقى من مصروف العائلة.
حتى المدينة العراقية والعربية مصممة هندسيًا على شكل معتقل كبير مموه تنتهي ساحتها المركزية بمؤسسات امن وشرطة وغيرها في حين ساحات مدن العالم مركزها مكتبة او صالة موسيقى او متحف أو حديقة أو دار أوبرا،
ومن خارج المدينة العربية ثكنة عسكرية ومطار حربي أو سجن،
أي تغلق عند الطوارئ مثل أي معتقل كبير.
هذه الاشياء ليست معزولة عن تفكيرنا ونظمنا بل هي ثقافة.
جدران منزلي هنا زجاجية وأبواب مفتوحة وحديقة ملتصقة بالشارع بلا سياج او شعارات ولا صور عن الديمقراطية والقانون والحرية ولا الملك والخ.
المسافة هي القانون والعرف والتقاليد. يمكنك معرفة النظام السياسي والاجتماعي من طريقة مشي الناس أيضاً.
هل يستطيع المقموع من الداخل والخارج أن يطير أو يقفز بمظلة من فوق هاوية؟ هل يستطيع الخائف والمحبط والجائع والمهان أن يغامر، مغامرة فكرية أو أدبية؟
المغامرة الفكرية تحتاج الى إنسان متماسك من الداخل ومكتمل الصحة النفسية ومتوازن وذات طبيعية لا مزورة،
ويعيش في ذات واحدة طبيعية، وليست ذاتاً مصنّعة، أو مجمع شخصيات متناقضة،
وعندما يغامر المنسجم المتصالح مع نفسه في شيء تحضر معه في تلك اللحظة ذاته، صافية ومشعة وموحدة كسبيكة الذهب.
يحضر معه ماضيه في لحظة واحدة او ما يعرف بالحقيبة الخلفية لان الانسان لا يواجه المواقف بمعزل عن تدخل تاريخه الشخصي. هذا التاريخ هو ما يجعله ثابتاً او هشاً وليست المواقف نفسها. لا توجد مواقف صعبة وأخرى سهلة بل توجد ارادة تحمل. هناك من يخاف عبور ساقية وهناك من لا يتردد في القفز في البحر.
لكن من يخاطب الخائف والمقموع في لحظة مغامرة الفكر أو الحرية أو الإختيار؟ الف سلطة وثعلب يصرخ في رأسه، وألف جرس إنذار داخلي ورسالة تأتيه من الداخل من الذوات السلطوية،
حتى لو أراد الذهاب للمقهى المجاور أو النزهة في حديقة أو كتابة عبارة في فضاء مفتوح.
هو لا يحتاج الى رقيب لأنه مزروع فيه، يأكل ويشرب وينام ويحلم بالإنابة عنه وهو يعتقد أنه حر في الاختيارات حتى العادية.
المشي موسيقى تعكس أعماق الشخص بل تكشف نوع النظام السياسي والاجتماعي والثقافي.
عشت سنوات في الدول الاسكندنافية ولم أر يوماً نرويجيا أو سويديا يمشي ثم فجأة يغير الاتجاه ويرجع للخلف،
لو حدث هذا أعرف انه عراقي أو عربي منفي لا يعرف أين ذاهب ولا يعرف أين سيعود بل لا يعرف لماذا خرج،
لأن كل الخيارات حتى العادية تأتي من مؤسسة قمعية فيه، وهو عبارة عن سجن متنقل.
كذلك لن تعثر على شخص يمشي ويتصارع مع نفسه، أو يتشاجر تارة مع الحذاء وتارة أخرى مع أعمدة الكهرباء أو مع الهواء أو مع حجرة في الطريق أو مع ذكرى كبست على صدره تحت المطر،
واذا عثرت على هذا النموذج أعرف إما عراقي أو عربي فالت بالرمق الأخير وعثر على حرية متأخرة كحفلة عيد ميلاد لمحتضر بعد أن تفسخت خلاياه وأعماقه.
المشي موسيقى تعكس النظام الديمقراطي او القمعي، مشية الخائف ليست مشية المطمئن،
وإيقاع الجسد في المشي كما في الجلوس يعكس ما في الفرد من قلق وخوف ومن حرية وأمل وطمأنينة وثقة.
هل يستطيع المقموع والمكبل من الداخل بسلاسل صلبة
من أفكار وقناعات ومخاوف وصناديق وقوالب، أن يغامر مغامرة فكرية أو جسدية مثمرة في القفز بمظلة من فوق هاوية؟
المعبأ بالخوف والقلق والفوضى النفسية، ليس كالمعبأ بالضوء والتناسق والانسجام والصفاء الداخلي:
الأول قضبان وسلاسل متجولة، والثاني طائر مغرد .
الحداثة الغربية تأسست على المغامرة الفكرية والجسدية، وعلى فكرة المراجعة والتجاوز، وعلى الرهافة والحساسية والحرية والوضوح وليس التخفي وعلى اسئلة الذات المحرجة وليس الهروب والاقنعة،
ونحن نضع هذه العناصر جميعاً في حقل الأمراض النفسية.
صديق طبيب في مستشفى الطوارئ في بغداد قال لي في حوار على الشاشة:
” عدد الذين ينقلون الينا في اليوم لارتطامهم بعمود كهرباء أو حائط أو باب زجاجية أو السقوط في حفرة مجاري أكثر من عدد حوادث السيارات
أو جرائم القتل”.
إنسان وضعوه في دوامة لسنوات وصار يمشي كالمسرنم، الماشي في النوم.
المشكلة ليست في المشي بل في الاتجاه المجهول.
ملعونة السلطة عندما تحتجب وتتقنع وتتخفى خلف أستار وبراقع وهو ما يسمى في الرواية” الواقع المحجوب” خلف واقع ظاهري مزيف بالخطابات والاحتفالات والبرامج والقوانين الكاذبة. السلطة في التفاصيل الصغيرة المنسية والمهملة.
ــــــــ الصورة : صخرة كيراجبولتن الأخطر في العالم في مدينة ستافنكر Stavanger جنوب النرويج حيث أسكن تُستخدم للقفز بالمظلات في الهاوية على ارتفاع ألف متر فوق هاوية عميقة. هل يستطيع الخائف والمقموع والمتشظي أن يقفز في الهاوية وهو كائن مصحّر؟
الخائف والمستلب لو قفز من السرير فلن يصل الارض إلا بعد سنة ضوئية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى