اغنية ع الممر…بقلم د. مصطفى عبد المؤمن

في قلب صحراء سيناء، حيث لا شيء يتحرك إلا الريح، وفي نقطة عسكرية منسية بين الجبال، تمترس عدد من الجنود المصريين، ينتظرون شيئًا لا اسم له… ربما أملاً، وربما معجزة.
كانوا قِلّة، لكن كلٌّ منهم بدا وكأنه يحمل الوطن في قلبه. وجوههم غطتها طبقات من الغبار، وأعينهم كانت تُحدّق في الأفق كأنها تنقب عن شيء ضاع هناك منذ سنين.
كان “حسن” الجندي الأصغر فيهم، لا يتجاوز العشرين. لم يذق طعم النصر يومًا، فقد دخل الجيش بعد هزيمة 1967، حين سقطت الأرض دون مقاومة تليق بها، وذُلّت الكرامة بغير حرب. كان لا ينام ليلًا، يجلس ممسكًا بندقيته كأنها مرآة، يرى فيها ملامح أخٍ فقده في الانسحاب الكبير، وأبٍ صامت لا يتحدث عن الحرب، لكنه ينظر لابنه بنظرة خجل لا تخطئها عين.
ذات مساء، عاد “جمال” من اشتباك سريع مع دورية إسرائيلية، مصابًا في كتفه. لم يتأوه، لم يطلب إسعافًا، فقط نظر إلى قائده وسأله بصوتٍ خافت، كمن يُلقي بقلبه:
“هو إحنا… مش حنحارب؟”
كان السؤال كالقذيفة. لم يجب القائد، لكن شيئًا تبدّل في العيون. لأول مرة منذ شهور، خيّم الصمت لا بسبب التعب، بل بسبب السؤال.
في تلك الليلة، لم يكن الصمت استسلامًا، بل بداية. بدأ الرجال يتدربون في الخفاء، ينفذون عمليات صغيرة، يزرعون الألغام خلف خطوط العدو، يتسللون كالأشباح، يضربون، ويعودون بلا أثر. كانت حرب استنزاف، لكنها كانت أيضًا استعادة للروح.
مرت سنوات، والعدو يزداد يقينًا أن المصريين لن يعودوا، وأنهم قد ماتوا في صمتهم. لكنه لم يرَ ما كان يتشكل تحت الرماد… لم يرَ النار.
وفي فجر السادس من أكتوبر 1973، استيقظ العالم على زئير لم يسمعه من قبل.
الطائرات تحلّق، والمدافع تزمجر، والقناة التي كانت حاجزًا من الخوف، صارت جسرًا للعبور.
كان “حسن” في الطليعة، يركض فوق الساتر الرملي، يصرخ باسم أخيه، ويدوس برِجله على الخوف.
“جمال”، رغم جرحه القديم، كان بجواره، ينادي: “ارفع الراية!”
انهار خط بارليف، الحصن الذي قيل إنه لا يُقهر. غُسلت كرامة الوطن بدماء أبنائه، وتحوّل السؤال القديم “مش حنحارب؟” إلى واقع نعيشه، ونصر يُروى.
وفي لحظة صمت، بعد انتهاء المعركة، جلس الجنود على الممر ذاته الذي شهد بكاءهم، واليوم يشهد فرحتهم.
أخرج حسن مذكرة صغيرة، كتب فيها:
“كنا نحمل الوطن في قلوبنا، والآن نحمله في النصر.”
من بعيد، سُمعت أغنية. كانت تلك نفس الأغنية التي كانوا يسمعونها في ليالي الحزن… لكنها لم تعد حزينة.
كانت “أغنية على الممر” قد تحوّلت إلى نشيد نصر.