صديقي العميد علي القشم.. الحلم الذي لم يمت. …صالح حمود

صديقي العميد علي.. الحلم الذي لم يمت.
…….
صالح حمود
بعد رحيله، طلب مني البروفسور محمد الشعيبي المشاركة في لجنة لإعداد كتاب عنه، لأكون أحد مشرفيه. شاء القدر أن ألتقي معه في كل حرف يكتبه الأصدقاء عنه، في كل ذكرى تُحكى، في كل دمعة تُسكب. ذلك الزميل الذي أصبح في سنواته القليلة قائداً، ثم ثائراً على الظلم الذي لحق به وبآلاف من جيله. لاعب الكرة الذي حقق مكانة مهمة، والرجل الإنسان الذي واصل في أحلك الظروف القيام بالأعمال الإنسانية بصمت.
هذا الزميل الذي نشأ في حضن أسرة مناضلة ورائدة في العمل النضالي والإنساني والثقافي، هو الذي التقيته شاباً في أجمل أيام العمر، في ذلك الزمن الجميل حيث كنا نحلم ببناء وطن يتسع للجميع. كنا نحلم بمستقبلٍ زاهر نبنيه بأيدينا.
لكن أحلامنا الكبرى قُصفت بعد الوحدة بحرب حولت مسار حياتنا جميعاً. حرب أعادت أحلامنا الوطنية إلى الصفر، وتركت أحلامنا الفردية في مهب الريح. ومع ذلك، استمررنا نقاوم من أجل بقايا هذه الأحلام في سياقات عدة، إلى اللحظة…
في مسار مراجعة ما اختزنه محبوه عنه، اكتشفت أن عليّ لم يستسلم أبداً. بعد تسريحه من البحرية، لم ينكفئ على نفسه – وكيف لا وهو تلميذ المناضل الجليل محسن ناصر القشم وأخوه، بما يمثله للجميع من رمزية، وله بشكل خاص من مثل أعلى في كل الجوانب – بل انطلق في رفضه للظلم معبراً بصلابة القائد الركن البحري في أول الصفوف، وفي ذات الوقت يعمل في المجال الاجتماعي والإنساني، يواصل العطاء رغم كل شيء. لقد حوّل ألمه إلى طاقة للعطاء، وحوّله إلى قوة للتغيير.
في تلك الصور القديمة المنشورة والتي يقوم على جمعها أصدقاؤه المقربون للكتاب، رأيته مرة أخرى شاباً يافعاً يلعب كرة السلة، ضاحكاً مبتسماً. ثم رأيته في صورة مع زملائه الضباط، فخوراً بوطنيته، غارقاً في خدمة بلده. وأخيراً، رأيته في صورته الأخيرة، رجلاً ناضجاً يحمل في عينيه كل آلام جيل، لكن في يده ما زالت بصمة العطاء تجلو بكل عنفوان قلبه المحب، نبل وقيم أسرته الكريمة.
لقد كان عليّ نموذجاً لجيلنا بأكمله – جيل حمل الأحلام الكبيرة، وتحطم على صخرة الواقع، لكنه رفض أن يموت. ظل يقاوم، يبحث عن معنى جديد للحياة، عن طريق آخر للعطاء.
اليوم، وأنا أرى الأصدقاء يعدون لكتابة ذكرياتهم عنه، وآخرين كتبوا في صفحاتهم، وقبل ذلك تلك الحشود من الناس التي ذهبت للعزاء والكم الهائل من التعازي التي سطرها المعزون، أدرك أن عليّ لم يمت. ما زال حياً في قلوبنا، في ذكرياتنا، في الدروس التي تعلمناها من مسيرته. لقد غرس فينا شيئاً من روحه، شيئاً لا يمكن للحرب ولا للموت أن ينتزعاه.
ربما لم نبنِ الوطن الذي حلمنا به في صبانا، لكننا بنينا في قلوبنا أوطاناً من الذكريات، من الصداقات، من القيم التي جمعتنا. وعليّ كان جزءاً أساسياً من هذا الوطن الإنساني الذي لا ينهار، وتكبر ملامحه كل يوم واقعاً وأملاً رغم المرارات التي تلازم عودة انبعاث الحلم.
ستبقى ذكراك نبراساً لنا يا صديقي القائد العميد. ستظل حكايتك تذكرنا أن الإنسان أكبر من أن تحبسه الهزائم، وأعظم من أن تقهره الظروف. مضيت كما عشت.. شامخاً كشجرة الزيتون، تظلل الآخرين حتى وأنت تعاني من قسوة الحياة. كنت تعطي وتمنح قلبك قبل يدك البيضاء، كما تعلمت من مدرستك الأسرة والوطن وقيم الحلم.
رحمة الله تغشاك







