كتاب وشعراء

: أنثى النار: من الثلج إلى الينابيع…..بقلم مريم أبو زيد

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

هِيَ الَّتِي وُلِدَتْ مِنْ رَحِمِ الشَّمْسِ، وَاخْتَزَلَتْ سِرَّ الضِّيَاءِ.. امْرَأَةٌ لَا تَمْشِي عَلَى الأَرْضِ، بَلْ تَحْمِلُ الْأَرْضَ فِي قَدَمَيْهَا نُورًا. كُلُّ مَكَانٍ تَحُلُّ بِهِ يَنْفَتِحُ كَوَاحَةٍ لِلْجَمَالِ، لِأَنَّهَا تَحْمِلُ فِي عَيْنَيْهَا قُدْرَةً عَلَى تَصْفِيَةِ الْعَالَمِ مِنْ قَسْوَتِهِ.. تُبَدِّلُ الْيَبَابَ بِحَرِيرِ الْإِبْدَاعِ، وَتَحْيَا الْقُلُوبُ حَوْلَهَا كَالْوَرَدِ الَّذِي يَسْتَقْبِلُ أَوَّلَ نَدَى.
وَهِيَ تَبْتَسِمُ، تَخْتَلِطُ أَضْوَاؤُهَا بِدَمِ الْحَيَاةِ.. لَا تَمْلِكُ الْقُلُوبُ إِلَّا أَنْ تَهِيَمَ.. فَابْتِسَامَتُهَا شَمْسٌ مُسْتَدِيرَةٌ تَدُورُ حَوْلَهَا الْقُلُوبُ كَعَبَّادِ الشَّمْسِ، وَغَمَازَتَاهَا.. يَاقُوتَتَانِ فِي صَدْرِ الْحَيَاةِ، تَرْوِيَانِ بِالْأَمَلِ كُلَّ عَطْشَانَ.
لَكِنَّهَا.. فِي أَعْمَاقِهَا.. تَحْمِلُ قَلْبًا مِنْ ثَلْجٍ! نَعَمْ.. قِطْعَةَ ثَلْجٍ فِي فَمِ بُرْكَانٍ! تَمْشِي عَلَى الْأَشْوَاكِ وَكَأَنَّهَا تَحْمِلُ السَّمَاءَ عَلَى رَاحَتِهَا.. لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ سِرَّ هَذِهِ الْجَمَالِ الْمُتَأَلِّمِ.. هَذِهِ الَّتِي أَحَبَّتْ بِكُلِّ مَا فِي الْوُجُودِ، حَتَّى شُغِلَ بِهَا الْإِنْسُ وَالْجَانُ.. وَصَارَ الْجَمِيعُ يَتَسَاءَلُونَ: مَا سِرُّهَا؟ مَا عَلَّتُهَا؟ كَيْفَ لِهَذِهِ الْأُنْثَى النَّارِ أَنْ تَحْتَرِقَ بِصَمْتٍ، وَأَنْ تَذُوبَ كَالْقَمَرِ وَهِيَ تَبْدُو شَمْسًا؟
وَظَلَّ الْحَالُ كَذَلِكَ.. حَتَّى أَشْرَقَ فَجْرُ نَيْسَانَ الْعَظِيمِ..
فَجْرٌجَاءَ كَخُطْوَةٍ أُولَى لِوَعْدِ السَّمَاءِ.. لَمْ يَكُنْ مَوْسِمًا فَقَطْ، بَلْ كَانَ انْتِقَالًا مِنْ عَالَمِ الْأَلَمِ إِلَى رَحَابِ الْوُجُودِ.
وَمَعَ هَذَا الْفَجْرِ، أَقْبَلَ الرَّبِيعُ يَزْهَرُ حَوْلَهَا.. لَمْ يَكُنْ رَبِيعَ الطَّبِيعَةِ فَحَسْبُ، بَلْ رَبِيعَ الرُّوحِ.. نَسِيمٌ عَطِرٌ دَاخِلِيٌّ جَعَلَ أَسْقَامَ الْقَلْبِ تَتَحَوَّلُ إِلَى أَنْغَامٍ.. وَأَشْعَالُ حُبٍّ لَا تُطْفَأُ أُضِيئَتْ فِي أَقَاصِيهَا، فَاسْتَيْقَظَ الْقَلْبُ وَرَقَصَ مَعَ الرَّيْحَانِ.. رَقْصَةَ الْمَحْبُوبِ الَّذِي وَجَدَ مَنْ يُنَادِيهِ أَخِيرًا.
وَتَحَرَّكَتْ أَغْصَانُ جَنَّتِهَا الدَّاخِلِيَّةِ.. وَسَقَطَتْ أَمْطَارُ الْأَمَلِ زَخَّاتٍ مِنْ نُورٍ وَوَعْدٍ.. لَمْ تَكُنْ قَطَرَاتِ مَاءٍ، بَلْ كَلِمَاتِ حُبٍّ تَنْسَجُ لَهَا قَمِيصًا جَدِيدًا.. لَيْسَ قَمِيصًا عَادِيًّا.. بَلْ ثَوْبًا مَزْرَكَشًا بِكُلِّ أَلْوَانِ الْحَيَاةِ.. الْأَزْرَقُ فِيهِ سَمَاءُ الْهُدُوءِ، وَالْأَخْضَرُ رَوْعَةُ الْإِيمَانِ، وَالْأَحْمَرُ وَقْدَةُ الْعَطَاءِ، وَالذَّهَبِيُّ بَرِيقُ الْوُجُودِ الَّذِي لَا يَخْفَى.
وَهَكَذَا.. تَحَوَّلَتْ أُنْثَى النَّارِ.. مِنْ حَامِلَةٍ لِقَلْبِ الثَّلْجِ فِي صَدْرِ بُرْكَانٍ.. إِلَى يَنْبُوعٍ يَفِيضُ بِالْحَيَاةِ. لَمْ تَعُدْ تَمْشِي عَلَى الْأَشْوَاكِ.. بَلْ صَارَتْ الْأَشْوَاكُ نَفْسُهَا تَتَحَوَّلُ إِلَى وَرُودٍ حَوْلَ خُطَاهَا.. لِأَنَّهَا اخْتَرَعَتْ أَنْ تَكُونَ الْحُبَّ نَفْسَهُ.. لَا مُجَرَّدَ حَامِلَةٍ لَهُ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock