جمال محمد غيطاس يكتب :بشلال دم وبحر ألم: غزة قضية انتخابية بالبلدان الغربية

تواترت جملة “غزة قضية انتخابية بالبلدان الغربية” خلال الفترة الأخيرة، خاصة في ضوء نتائج العديد من استطلاعات الرأي الأخيرة التي جرت على مواطني هذه الدول، حيال الصراع بين الكيان الغاصب والشعب الباسل في غزة.
وهذا في تقديري إنجاز مهم وكبير، لا يفهمه وعاظ السلاطين وندماؤهم وغلمانهم وآكلو فتاتهم ومنافقوهم من جنرالات المقاهي.
بل يفهمه ويقدره من يتعامل مع الصراع من منظوره الواسع، وأمده الطويل باعتباره صراع وجود لا حدود، وصراع بين المغتصب وصاحب الحق والاحتلال والمقاومة.
للتوضيح: الكيان العنصري المجرم السفاح يصله شريان الحياة الأكبر الذي يتغذى ويعيش عليه من خارجه، أموالاً وعلماً وسلاحاً واستثمارات وغيرها، وتحديداً من أمريكا وبقية دول الغرب.
إذا انقطع الشريان يصبح الكيان المتبجح المغتصب لقمة سائغة لكلاب السكك.
عظمة غزة ومقاومتها أنها تمكنت من وضع أول خطوة جادة في رحلة قطع هذا الشريان.
جاهدت غزة وقاومت على مدار سنتين، وصبرت وصابرت وصمدت واحتسبت، حتى صارت شلالاً للدم مكوناً من 60 ألف شهيد و100 ألف مصاب وجريح، وبحراً للألم مكوناً من آهات ما يناهز مليونين من الثكالى واليتامى وأنات المهجرين والجائعين والمشردين.
دفعت غزة الثلث ألماً ودماً مقدماً على مدار أكثر من 800 يوم، فكافأها خالقها رويداً رويداً بتقليب قلوب وعقول ملايين البشر لصالحها، فانتقلوا لصفها، سواء كانوا من قبل مع عدوها أو لم يكونوا يعرفونها، فاحتلت الواجهة كرمز يناضل بصدر عارٍ، ضد عدو مدجج بأشد الأسلحة فتكاً.
صنع شلال الدم وبحر الألم زلزالاً أخلاقياً وفكرياً غير المفاهيم، وأسقطا الصورة النمطية المترسخة في أذهان مواطني الغرب منذ الحرب العالمية الثانية، بأن الكيان هو قصة شعب بلا أرض في أرض بلا شعب، جعل من نفسه واحة للحرية والديمقراطية والحضارة، محاطة بسيل من الجهل والتخلف والإرهاب والكراهية والعدوانية، وكانت هذه الصورة النمطية هي منبع شريان الحياة لهذا الكيان الغاصب الكذاب حتى ما قبل السابع من أكتوبر.
الطوفان وشلال الدم وبحر الألم دمرا هذه الصورة النمطية خلال الأشهر الأخيرة، وأسقطا الأقنعة عن الكيان كلياً تقريباً، وأحالاه كياناً منبوذاً، يبحث عمن يسمعه فلا يجد، بعد أن كان ملء السمع والبصر والعقل، فقد تبدلت الرؤية وتغيرت الصورة لدى شريحة واسعة من مواطني هذه الدول، شريحة تناهز النصف في معظم الدول، وتناهز الثلثين وربما أكثر في البعض منها، بحسب ما اتضح من استطلاعات الرأي.
ولأن هذه الشريحة الواسعة من المواطنين العاديين، هي في الوقت نفسه الشريحة الواسعة من الناخبين والمصوتين في الانتخابات البرلمانية والتشريعية والرئاسية بهذه البلدان، باتت قضية غزة واتجاهات الناخبين حيالها قضية انتخابية جماهيرية، ومن الأمور المؤثرة التي لا يمكن تجاهلها من قبل الأحزاب والتنظيمات السياسية والحكومات بهذه البلدان، وبات الموقف من غزة أمراً يتعين الوقوف عنده ودراسته جيداً قبل طرحه على جماهير الناخبين.
وصول الوعي بقضية غزة إلى هذا المستوى من الانتشار والاتساع لدى قاعدة المواطنين الذين هم في الوقت نفسه قاعدة ناخبين، هو العامل الأول والأهم الذي أجبر رؤساء وحكومات الغرب على تغيير مواقفهم من الكيان وحكومته الفاشية المجرمة القاتلة، وجعلهم يأخذون خطوات للوراء خوفاً من ناخبيهم، قبل أن يكون انحناء للحق والعدل، فهذه الحكومات هي نفسها التي ظلت طوال عامين تقدم المال والسلاح للكيان ليقتل به أهل غزة.
الإنصاف يقول إن كل ما شهدناه خلال الأسابيع الأخيرة، تحقق بقوة الدفع الصادرة عن قاعدة الوعي الجديد لدى مواطني الغرب، وعي جديد دفعت غزة ثمنه مقدماً في صورة شلال الدم وبحر الألم، وبالتالي فكل ما أنجز بالأمس وقبله، هو إنجاز لم تصنعه القمم الموسعة، ولا اللقاءات الثنائية، أو الاجتماعات متعددة الأطراف، أو قرارات الأمم المتحدة، أو بيانات الجامعة العربية، ولكن صنعه في الأصل كل من قدم قطرة في شلال الدم، وكل من قدم آهة في بحر الألم، وفعل ذلك بنفس راضية بقضاء ربها، والثقة في نصره، قبل ذلك لا فضل لرئيس أو ملك هنا أو هناك، وأي فضل لأي منهم يأتي بعد من صنعوا شلال الدم وبحر الألم بمسافة واسعة.
شلال الدم وبحر الألم لم يحققا نصراً عسكرياً، ولم يوصلا لحرب التحرير الفاصلة الحاسمة، إنما كانا اختراقاً واضحاً لعقول وأذهان الغرب، والنجاح في إقناعهم بالجانب الآخر الحقيقي العادل من الرواية.
الطوفان وشلال الدم وبحر الألم هما خطوة مهمة في تمهيد الطريق نحو دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة عاصمتها القدس، تمهد هي الأخرى لتفكيك هذا المشروع الاستعماري الاستيطاني البغيض.
إنه إنجاز يشبه كتابة أول كلمة في أول سطر من أول صفحة في الجزء التمهيدي لكتاب مكون من عدة مئات من الصفحات، مقسمة لعدة أبواب كل باب منها به عدة فصول، كل فصل به عدة أجزاء.
قيمة هذا الإنجاز أنه بداية يمكن البناء عليها، بعد عشرات العقود من عدم وجود بداية.
بشلال الدم وبحر الألم أصبح لأشقائنا ولنا جميعاً عرباً ومسلمين بداية لا بد من النضال من أجل الوصول إلى النهاية، ولو بعد حين.