د.فيروزالولي تكتب:دولة كانت هنا… ملاحظات كوميدية على نكبة وطن اسمه اليمن

في مثل هذا اليوم من عامٍ مضى… ومن قرون أخرى أيضًا، احتفل اليمنيون في الجنوب بذكرى الاستقلال من الاستعمار البريطاني. هتفوا، صرخوا، رقصوا على أنغام “برع يا استعمار!”، ثم… دخلوا في استعمار من نوع آخر: الاستعمار المحلي، المصنوع في البيوت، الملفوف بالقُطن، المغلف بختم “صُنع في بلادنا”، والمُحاط بوجوهٍ تعرفنا جيدًا… ولا تعرف ماذا تفعل سوى توقيع صفقات الانهيار.
نعم، نحن الذين حررنا الأرض… ثم بعناها في مزاد المكونات.
، واليوم بالكاد بيت موبايل شبكة 2G.
تخيل حضارة عمرها آلاف السنين ينتهي بها المطاف تتقاتل على شجرة قات أو قِربة ماء في صعدة أو شبوة.
في الجنوب، البريطانيون حاولوا يدخّلوا النظام الإداري، التعليم، وحتى الشاي بالحليب، فجاءت الاشتراكية وقالت: “نحن أبناء ماركس، وسنقضي على القبيلة!”، فابتلعتهم القبيلة وسجلتهم باسمها في السجل العقاري.
أما التعليم، فكان ذات يومٍ شعلة في عدن، ثم أصبح اليوم شعلة تحرق الأعصاب: مدارس بلا معلمين، ومعلمون بلا رواتب، وطلاب بلا دفاتر، لكن الكل يملك حسابًا على فيسبوك يناقش فيه الوضع السياسي كخبراء ستراتيجيين.
وإذا تساءلت عن المرأة؟ كانت في الجنوب تُشرّع لها القوانين. اليوم، تُشرَّع عليها البنادق.
البعد السياسي: جمهورية المكونات المتحدة تحت إشراف العدم
بعد الاستقلال، قررنا نجرب الاشتراكية، فصرنا كوبا… لكن دون سيجار.
الشمال قرر يجرب الجمهورية، فبقيت الإمامة، لكن مرتدية بدلة و”واتساب”.
ثم تزوجنا – الوحدة، أقصد – في 1990. دخلنا القفص الذهبي، ثم اكتشفنا أنه كان قنبلة عنقودية.
اليوم، لدينا:
حكومة في المنفى، تشبه مدراء الشركات الوهمية.
مجلس انتقالي يقول: “الجنوب لنا”… لكن لا يعرف من في الجنوب معه أصلًا.
فصائل هنا وهناك، تقاتل على الكهرباء، والميناء، و”الشرعية“ التي لا يعرف أحد مكانها الحقيقي.
والأفضل من كل هذا؟ كل فريق يملك متحدثًا رسميًا، وساعة رولكس، وبيانًا كل ثلاث ساعات.
البعد الاقتصادي: النفط في جيب، والشعب في الطين
تخيل اقتصاد بلد يعتمد على النفط، لا يعرف كم يصدر، ولا لمن، ولا كم السعر.
كأنك تبيع ذهب أمك في السوق… ثم تعود لتسأل: “وين الفلوس؟”
في الجنوب، الميناء كان ينبض كقلب المحيط، واليوم يُدار ككُشك ساندويتشات.
في الشمال، كانت الزراعة تملأ البطون، والآن تملأ المجالس بالقات والفراغ.
العملة؟ تهاوت مثل فريق كرة قدم بلا حارس.
ويا للمفارقة، أكبر استثمار في اليمن اليوم هو:
التحويلات من المغتربين،
المساعدات الإنسانية،
والأسواق السوداء التي تعمل كما لو أنها بنوك مركزية مستقلة.
أما المواطن؟ يعيش على “ربك يفرّجها”… و”اللهم لا حسد”.
البنية التحتية: دولة بثلاجة… بدون كهرباء
في عدن، حضرموت، الحديدة، إب، وحتى صنعا، الجميع يشترك في شيء واحد: انقطاع الكهرباء.
في حضرموت، المواطن يُكافأ بساعتين كهرباء مقابل 12 ساعة نوم إجباري أو خروج إجباري من البيت هربًا من الحر.
الطرقات؟ لا تصل بين المحافظات، لكنها توصلك إلى المستشفى بسبب الحُفر.
المطارات؟ تتحول إلى مواقع عسكرية أو ساحات انتظار لا تنتهي.
والموانئ؟ كل ميناء عليه علم، وكل علم تحته صراع، وكل صراع تحته مورد ضائع.
نعم، نحن نعيش في دولة تحت الترميم… منذ ثلاثين عامًا. لكن المقاول هرب، والمهندس انشق، والمخططات ضاعت في جلسة مقيل.
ختامًا: هل من مستقبل؟ أم نستورد واحدًا من الخارج؟
الحقيقة؟ اليمن قادر.
لكنه حتى الآن لا يريد أن يكون قادرًا.
بإمكاننا أن نعيد بناء الدولة، لكن بشرط أن نطفئ السجائر السياسية، ونفصل الشيوخ من كراسي البرلمان، ونُلزم المكونات السياسية بدخول ورشة إصلاح… على حسابهم الخاص.
مطلوب:
شباب يعرف أن المستقبل لا يُكتب على “تويتر”، بل يُبنى على الأرض.
نساء تعرف أن حقوقها لا تُوهب، بل تُنتزع.
زعماء يملكون مشروعًا وطنيًا، لا مشروعًا خاصًا بالبطارية والولاء.
هل نحتاج دولة اتحادية؟ لامركزية؟ دولة داخل دولة؟
ربما نحتاج أولاً: دولة.
وفي الذكرى القادمة للاستقلال… لا نريد شعارات.
نريد كهرباء، وخبز، وجامعة تعمل، ومستشفى لا يموت فيه الناس بسبب نقص الأكسجين.
أما أن نظل نحتفل بالاستقلال في الظلام… فتلك نكتة سوداء لا تضحك أحدًا.