د. محمد سيد أحمد يكتب :عودة استراتيجية بحجم التاريخ والجغرافيا !!

في لحظة فارقة من تاريخ الشرق الأوسط، تعود مصر إلى موقعها الطبيعي في قلب المشهد، من شرم الشيخ، المدينة التي تحولت من منتجع سياحي إلى غرفة عمليات إقليمية، تدار مفاوضات مصيرية تحدد ملامح ما بعد الحرب في غزة، وتعيد رسم خريطة التوازنات بين القوى الإقليمية والدولية، لم تعد القاهرة مجرد وسيط يطرق الأبواب لتهدئة الصراع، بل صاحبة القرار في تحديد المسار، وهنا تحديدًا تتجسد اللحظة المصرية بامتياز، لحظة استعادة الدور والقيادة، عندما تكون السياسة امتدادًا للسيادة، والدبلوماسية غطاءً للقوة.
في قراءة متأنية للمشهد، يمكن القول إن الرئيس عبد الفتاح السيسي لم يرفض “صفقة ترامب” فحسب، بل أمّمها، أي حولها إلى خطة مصرية خالصة، فالمبادرة الأمريكية التي ولدت في واشنطن وماتت في تل أبيب، وجدت في القاهرة حياة جديدة بصيغة مختلفة، سلام بشروط مصرية، واستقرار برؤية تحمي مصالح المنطقة لا مصالح العدو الصهيوني، القاهرة فرضت على تل أبيب تنازلات مؤلمة، أبرزها انسحاب أعمق من غزة، وتبادل للأسرى بشروط غير مسبوقة، مقابل ضمانات أمنية صارمة، ومع ذلك حرصت مصر على أن تكون صورة التوقيع النهائي هي لقطة النهاية التي تملكها وحدها، فدعت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لحضورها، لتقول بوضوح: “من يكتب السيناريو الختامي هو من يمتلك القصة”.
لم يكن الطريق ممهدًا بالكامل أمام التحرك المصري، فقد برزت خلافات واضحة بين القاهرة من جهة، والرياض وأبوظبي من جهة أخرى، بشأن آليات التفاوض مع العدو الصهيوني ومستقبل إدارة غزة بعد الحرب، وسلاح حركة حماس، وبينما سعت العاصمتان الخليجيتان إلى مقاربة أكثر انفتاحًا تجاه تل أبيب، أصرت القاهرة على ثوابتها التاريخية في دعم القضية الفلسطينية، ورفض أي وجود أمني صهيوني في محيط سيناء، هذا التباين دفع المخابرات العامة المصرية إلى التحرك منفردة في بعض المراحل الحساسة، في إشارة إلى أن مصر تتعامل مع الملف باعتباره قضية أمن قومي لا ورقة دبلوماسية عابرة.
اختيار ذكرى حرب أكتوبر لتوقيع الاتفاق لم يكن مصادفة، بل رسالة رمزية مزدوجة تقول: “كما عبرت مصر في 1973 بالسلاح، فهي اليوم تعبر بالعقل والدبلوماسية”، اللحظتان تشتركان في شيء واحد هو استعادة الكرامة والدور والمبادرة، فالقاهرة لا تنتظر إملاءات الخارج، بل تبني واقعها السياسي بنفسها، وتحول الرمزية الوطنية إلى فعل سياسي مؤثر يعيدها إلى قلب الحدث الإقليمي.
والأنباء عن انتشار وحدات من قوات النخبة المصرية في شرم الشيخ تعكس إدراك الدولة أن السياسة لا تنجح دون سند القوة، فالمفاوضات تدار من موقع القوة والسيادة، لا من موقع الوساطة الرمزية، تلك القوات لا تحرس قاعات التفاوض فقط، بل تحمي رسالة مصر الجديدة التي تقول: “أن من يملك القدرة يملك الكلمة، وأن الدبلوماسية الحقيقية تبدأ من خلف خطوط القوة الوطنية”.
في ظل تراجع أدوار بعض القوى الإقليمية وانشغال أخرى بأزماتها الداخلية، تتحرك القاهرة بثقة وهدوء لتملأ الفراغ، هي لا تبحث عن ضوء إعلامي، بل عن توازن مستقر يعيد صياغة المنطقة بنكهة مصرية خالصة، توازن يحفظ سيادة الدول، ويمنع تمدد الفوضى، ويعيد مصر إلى موقعها الطبيعي ركيزة أساسية للاستقرار الإقليمي، اليوم لا تتوسط مصر بين طرفين متنازعين، بل ترسم المسار وتحدد اتجاه الريح، من شرم الشيخ تكتب الرسائل الجديدة للشرق الأوسط، وترسل توقيعاتها إلى العواصم الكبرى.
هي لحظة تقول فيها القاهرة للعالم كله: “لسنا طرفًا في المشهد، نحن من يصنع المشهد”، وهكذا تتحول اللحظة المصرية من مجرد حدث سياسي إلى عودة استراتيجية بحجم التاريخ والجغرافيا، حيث تلتقي الحكمة بالقوة، والدبلوماسية بالعزم، لتبقى مصر — كعادتها — اللاعب الذي يكتب الرسائل ولا ينتظر الرد، اللهم بلغت اللهم فاشهد.