نسيم قبها يكتب :التعليم وفعل الوجود: تشريح دور المدرسة في تشكيل وعي التحرر في السياق الفلسطيني

في رحاب الألم ، وفي زحام الخرائط الممزقة، تحت وطأة احتلالٍ يُمعن في تمزيق الجغرافيا وسلب الذاكرة، تتحول المدارس في فلسطين من مجرد أماكن للتلقين إلى ساحات للصراع الوجودي، حيث يلتقي الطفل بوطنه، والمعرفة بالكرامة، والمستقبل بجراح الحاضر. هنا، حيث تحوّلت المقاعد الدراسية إلى مراصدَ تشهد على مشاهد الإبادة، لم يعد التعليم ترفاً فكرياً، بل أصبح فعل مقاومة وسياسة وجودية تختبر قدرة الطالب على تحويل الألم إلى إرادة، والدمار إلى تصميم.
المدرسة كفضاء للمقاومة الرمزية
في السياق الفلسطيني، يتجاوز التعليم كونه خدمةً تقدّمها مؤسسة إلى كونه حقاً سيادياً وضرورة تحررية. فبينما تتداعى جدران الفصول تحت القصف، يتحول الفعل التعليمي إلى ممارسة سياسية بامتياز، تهدف إلى تحصين الهوية وإعادة إنتاج الذات الجمعية في مواجهة مشروع النسيان والإبادة. فما شهدته وتشهده غزة اليوم ، ليس مجرد حرب على المباني، بل هو “إبادة تعليمية” منهجية، كما وصفتها الأمم المتحدة، تستهدف القضاء على أحد أهم مقومات الصمود الفلسطيني .
تشير الأرقام إلى أن إسرائيل كسرت قاعدة الأرقام النازفة للدمار والموت بحق التعليم بشرا وأمكنة في فلسطين ، هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات لا تتنفس، بل هي شواهد على سياسة ممنهجة تهدف إلى تجهيل الجيل القادم وتقطيع أواصر المعرفة بينه وبين تاريخه وهويته.
تشريح الوعي الطفولي: من الصدمة إلى الصمود
يواجه الطلبة الفلسطينيون مشاهد الإبادة بعيونٍ تختزن أسئلة وجودية مبكرة، حيث تتحول “الصدمة” إلى مصدر للمعرفة السياسية. فالأطفال الذين عاشوا تجربة النزوح وفقدان الأهل والأصدقاء ، لم يعودوا ينظرون إلى التعليم كمسارٍ وظيفي تقليدي، بل كوسيلة للبقاء والمواجهة. لقد أصبحت الكرامة التعليمية بالنسبة لهم سلاحاً في مواجهة محاولات طمس الهوية، حيث يدركون أن معرفتهم بقضيتهم وتاريخهم تشكل درعاً واقياً في معركة الوجود هذه.
في هذا السياق، يبرز مفهوم “البيداغوجيا النقدية” كإطار نظري لفهم كيفية تحويل الفضاء التعليمي إلى منصة لقراءة الواقع ونقده. فالمعلم الفلسطيني، الذي تحوّل من مجرد ناقل للمعرفة إلى “مثقف عضوي” كما وصفته أدبيات السياسات التربوية الفلسطينية، يلعب دوراً محورياً في مساعدة الطلبة على تفكيك خطاب القوة السائد وتحويل تجربتهم الشخصية إلى وعي جمعي قادر على المواجهة .
سياسات التجهيل ومقاومة النسيان
وتكشف سياسة التدمير المنهجي للمؤسسات التعليمية عن “جينالوجيا القوة” الاستعمارية التي تدرك أن المعرفة تمثل مصدر قوة لا يقل خطورة عن السلاح. فإسرائيل، كما تشير التقارير، قتلت نحو 12 ألفاً و800 طالب وطالبة و760 معلماً وموظفاً تربوياً، في عملية تطهير ثقافي تعليمي بهدف فصل الشعب الفلسطيني عن ذاكرته الجماعية وإمكانيات مستقبله .
في مواجهة هذه السياسة، يتحول التعليم إلى “مقاومة حيوية” تمثل رفضاً للانسحاق تحت وطأة المشاهد اليومية للدمار. فحتى في خضم الدمار، لم تتوقف المحاولات الفردية الشخصية والمؤسسية لإعادة إحياء العملية التعليمية، سواء عبر التعليم عن بعد أو في الخيام والملاجئ، في إشارة إلى إرادة معرفية لا تنكسر.
نحو بيداغوجيا فعل التحرير والتحرر
تبقى المدرسة الفلسطينية، رغم كل الدمار، معاقلا سياديا فلسطينيا معنويا واعتباريا ، لا يمكن هدمها في أخيلة الطلبة الجمعي . إن التحدي الأكبر لعملية التعلم التحررية الفلسطينية تتمثل في تحويل هذه التجربة الأليمة رمزيا إلى “رأس مال اعتباري” يمكن أن يغذي مشروع التحرر في المستقبل. فطلبة فلسطين، الذين يشهدون مشاهد الإبادة، يختزنون في وعيهم الباكر دروساً في السياسة والكرامة والمقاومة، قد لا توفرها أي مناهج رسمية.
بالحقيقة، إن العلاقة الجدلية بين التعليم والسياسة في السياق الفلسطيني قد وصلت إلى ذروتها في ظل مشاهد الإبادة، حيث لم يعد بوسع الطلبة إلا أن يقرأوا واقعهم من خلال العدسة السياسية، وأن يمارسوا التعليم كشكل من أشكال المقاومة الوجودية. إنهم جيل يكتب فصلاً جديداً من “البيداغوجيا النقدية” حيث تتحول المأساة إلى منهل للمعرفة، والدمار إلى منطلق للخلق، والإبادة إلى مصدر لإعادة التأسيس