كتاب وشعراء

إشراقات المشاعر الوطنية في قصيدة الشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي-عيد الجلاء أتى يا وطني 2025 ….بقلم محمد المحسن

توطئة : للوطن في نفوس ابنائه من الوشائج ما يجعله متوهجاً في القلوب و قد انبرى الشعراء الوطنيون لترجمة ذلك التوهج شعراً و مشاعراً ،فكان من بينهم شاعرنا التونسي الكبير د-طاهر مشي الذي برز وتميّز بنزعته الوطنية،فجمعت-بعض-أشعاره بين صور الوطنية في أبهى حللها،ومكر السياسة،بين روحانيات التصوّف و الصراع المادي،بين الرومنطيقية والوطنية،الشاعر الوطني المُرهف و الحزين أحيانا كأغلب الشعراء الوطنيين،وهو كذلك الشاعر العاشق،عاشق تونس الجميلة :
“فدعنا أيا شعبنا نستعن
على مجد تونس كفانا رياء
فكل الورى للعلا يطمحون
لهذي البلاد لهم انتماء..”

قد لا أجانب الصواب إذا قلت أنّ الشعر هو لغة القلوب ومرآة النفوس،يعبر عن الخلجات الغامضة ويكشف عن الإحساسات الدفينة،يخاطب الوجدان والعاطفة ويستلهم الوحي والخيال وينفذ إلي أعمق ما فى الإنسان و الطبيعة،يقوم علي اللفظ الرشيق و التصوير الدقيق والتشبيه العميق والنغم الرقيق وقد سمي الشاعر شاعرا لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره.
قال الجاحظ في رسالة الحنين إلى الأوطان: “كانت العرب إذا غزت أو سافرت حملت معها من تربة بلدها رملاً وعفراً تستنشقه..”
الوطن في اللغة العربية كما جاء في لسان العرب..هو المنزل الذي يمثل موطن الإنسان ومحله،ووطن المكان وأوطن أى: أقام متخذا إياه محلا وسكنا يقيم فيه،فالوطن هو المكان الذي ارتبط به الإنسان،فهو مسقط الرأس،ومستقر الحياة،وسكنه روحاً وجسداً،وهام به حباً وحنيناً، فحب الوطن والالتصاق به وحب البقاء فيه من الأمور الفطرية لدى الإنسان.
والمتأمل لقصيدة شاعرنا التونسي الكبير د-طاهر مشي (عيد الجلاء أتى يا وطني 2025 ) يجد حب تونس يسري بين شرايينه وينبض به قلبه وقلمه..فها هو يقول على هامش الإحتفاء بعيد الجلاء:

عيد الجلاء أتى يا وطني 2025

أتى يومُكِ المجيدُ يا بلَدي
فيكِ تَجَلّى الفجرُ في الشُّهُبْ

نهضنا بسيفِ العدلِ منتصرينَ
ودُكّت قلاعُ البغيِ بالغضبْ

سقينا ثراكَ دمَ الأوفياءِ
فأنبتَّ فجراً بهيَّ الرطَبْ

كفاحُ الرجالِ سقى أرضنا
وأوقدَ فيها شعاعَ اللهبِ

سلامٌ على من قضوا فداءً
وكانوا رجالَ الرشدِ والسببْ

وها أنتِ في عيدكِ الباسمِ
تغنين لحنَ المجدِ والطربْ

فيا تونس الحُبَّ يا قبلةً
لأحرارِ هذا الزمان الصّعِبْ

رفعنا اللواء على قمّةٍ
تنادي بأملٍ يزيحُ الكربْ

عهدنا بألا يضيع الذي
بنوهُ بدمعِ الوفاءِ التعِبْ

فدم الشهيد لهيب الندى
يربي على العهدِ قلب الصبي

ويصرخ فينا إذا خشينا:
“أتموا المسير بلا مهربِ!”

أيا نسلَ من حرّروا موطني
سلوا المجد عن عزهم والغضبِْ

هم رسموا بالدماء الطاهرات
طريقَ الكرامة وسط العطبْ

فكونوا لهم سادةً أوفياء
وصونوا العهود بكل الأدبِْ

ولا تركنوا للنعيم الخدوع
ففي النوم يسلب تاج الذهبْ

تعلم بأن الفدا مشعلٌ
يضيء المدى إن غفا واغتربْ

فإن الجلاء جهاد السنين
وحلم الشعوب ونبض الكتبْ

وإن البلاد تنادي بنا
فيا من نحب أجيبوا النسبْ!

د-طاهر مشي

اتسمت القصيدة بعمق الدلالات اللغوية المفهومة المعنى وبعيدة عن السفسطة ذات الألفاظ المبهمة، وبلغة منسجمة ومترابطة تتسم بالجمالية،وبذلك فإن وجهة نظر د-طاهر مشي تتفق مع قول البحيري على أنَّ النص بشكل عام هو ” إبداعات لغوية يستدعيها واقع معين،أو وجهة فعلية معينة ويجب أن تدرك في إطار هذه الخاصية على أنها أبنية للمعنى “1.
وبذلك استطاع الشاعر دفع مخيلة القارئ إلى التفاعل الحقيقي والتأثري مع بُنية النص والفكرة الأساسية الذي تضمنها وفي مفهوم آيزر ” نوع من التفاعل الوجودي بين الذّات القارئة والبنية النصيّة لتوليد معنى ما وقيمة أدبية ما لا تعودان بالتحديد إلى ملكية خاصة بالنص ولا إلى ملكية خاصة بالقارئ ولكنها تعود فقط إلى تلك النقطة التواصلية التي توجد بينهما بهذا المعنى هو فعل منتج للدلالة وليس مستهلكاً لها”2.
ما يميز أسلوب ولغة الأديب والشاعر التونسي الفذ د-طاهر مشي،لغته “الجبرانية”،وثقافته الواسعة العميقة،هذا الأمر يتجلى في شعره ونثره..كذلك هو يفلح في احداث صداع إيجابي للقارئ،مصحوب بعصف ذهني،يحتم على القارئ طرح الأسئلة العميقة والهامة والتي تتفاعل بقوة مع النص،يترك طعم النص تحت حافة اللسان لفترة طويلة..لذا،فإن د-طاهر مشي” شاعر مجرب ملم بخفايا الأدب والإبداع.
وإذن؟
هو شاعر إذا،لا يحب ان يمر القارئ على قصيدته مثل سحابة مسرعة غير حبلى بمطر الخير،بل يحب أن يلثم القارئ أريج القصيدة المعتق،يعلق طيبها بذاكرة لا تشيخ،يشحذ مخزونه الفكري والثقافي،تستنهض القصيدة جحافل العواطف النصف معطلة،تبوح له بأسرارها ويبوح لها بفيض من المشاعر الصادقة،فالقصيدة التي لا تثير القارئ ولا تنجب الأسئلة هي خارج الابداع.
وما يلفت النظر في جل قصائد الشاعر التونسي السامق د-طاهر مشي(قصيدة عيد الجلاء ،2025- نموذجا) اللغة الشعرية الراقية والمميزة،فهو
لا يكرر كلمات الغير ولا يستعير عذب الشعر من فحول الشعراء،بل يجتهد حين يغزل لنا الجمل والصور الشعرية المبتكرة والجديدة..وهذا يعني، أن لغة “د-الطاهر” اقرب الى لغة الشاعر الكبير “جبران خليل جبران”،حيث تتوافق الصور الشعرية مع الفلسفة العميقة،ونصرة المظلوم والدعوة الى السلام والحق والطهارة والصدق.
خلاصة:
الشاعر فنان يرسم لوحة تشكيلية بالكلمات لن يتذوق جمالها إلا عاشق الجمال.والناقد مرآة من زجاج مجهري يظهر ذلك الجمال لضعاف البصر في شاشة الشعر.
والقصيدة التي طرّزها الشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي جاءت في شكل لوحة فنية في منتهى الروعة والجمال بل كهف من الكنوز..
على سبيل الخاتمة:
يبقى الشعر على رغم تواريه خلف ظلال فنون أدبية أخرى في عصرنا الحاضر شمسًا تضيء بالحقيقة،وقلبا ينبض بالعاطفة،وصدقا يحكي مرارات الواقع،وعبقا يعطر حدائق الحياة،وإلى جانب هذه الشعرية الإنسانية المرهفة تتحول القصيدة إلى بندقية تذود عن حياض الوطن، ورصاصة تخترق جبين الغدر،وسمًّا زعافا يسري في جسد الخيانة.
واتخاذ الوطن ساحة للإبداع الشعري رسالة سامية يتلقاها الشعراء راية من رايات الفخر،ويبذلون الوسع لكي يرتقوا بكتاباتهم في هذا المضمار.وكم خلد الوطن على مدار التاريخ شعراء عشقوا تراب الوطن،وتغنوا بفضائه البهيج،وناضلوا وكافحوا مثل جندي باسل يبذل روحه ودمه فداء لوطنه.ويحق لنا أن نفخر بهؤلاء الشعراء،وأن نحفل بإبداعاتهم،وأن نسلط الضوء عليها،لارتباطها بقيمة عالية،وهي حب الوطن والتفاني والإخلاص لأجله.وكم يحق للشاعر الذي يعد لسان الأمة أن يفاخر بوطنه،وأن يفسح المجال لهذا الوطن المعشوق لكي يتنقل بين قوافيه في تجليات مختلفة.
على خطى هؤلاء الشعراء المبدعين،يطل علينا-كما أسلفنا-الشاعر التونسي المبدع د-طاهر مشي في قصيدة وطنية(عيد الجلاء أتى يا وطني 2025 )،تتجاوز ثنائية الأنا والآخر،والسائد والمهمش،ليشرق الوطن (تونس) فيها جليًّا،ويطغى بعنفوان محبته والغيرة عليه على معظم طروحاته الشعرية التي تنوعت مساراتها.فنراه يتجلى أمًّا رؤوما تحتضن أبناءها،ومعشوقة حسناء ألهبت قلوب محبيها،وشبابًا متجددًا يطمح نحو العلياء،وطهرًا نقيًّا لا تشوبه شائبة.
ومن هنا،يلمس من يتأمل أبيات الشاعر “د-الطاهر” اتجاهه نحو إحكام أبياته الشعرية،من حيث المعنى واللفظ والموسيقى،لتصبح كالحكم التي تتناقلها الألسنة،وتطير بها الركبان،وتوظيف الحكمة في الأبيات الشعرية الوطنية قيمة عالية ترفع مكانة القصيدة،وتحيل رمزيتها الطاغية إلى عمق فلسفي يتقرر إدراكه في خلجات القلب وبواطن الروح.
على سبيل الخاتمة :
لقد احتل عيد الجلاء (15 أكتوبر 1963) مكانةً خاصة في الوجدان التونسي،وكان من الطبيعي أن ينعكس ذلك في الشعر التونسي بمختلف أجياله وتياراته.لم يكن الجلاء مجرد رحيل آخر جندي فرنسي عن قاعدة بنزرت البحرية،بل كان تتويجا لكفاح طويل وعلامة على اكتمال السيادة الوطنية.
لقد تناول الشعراء هذه المناسبة،ومن ضمنهم شاعرنا الكبير د-طاهر مشي من زوايا متعددة، فمنهم من ركز على البعد التاريخي والكفاحي، ومنهم من غوص في المشاعر الإنسانية،وآخرون نظروا نحو المستقبل.
وخلاصة القول : قصائد عيد الجلاء في تونس تشكل ديوانا شعريا للذاكرة الوطنية،تروي قصة شعب رفض الخنوع ودفع ثمن حريته بدماء أبنائه.هذه القصائد ليست مجرد نصوص أدبية،بل هي وثائق تاريخية عاطفية تحافظ على جذوة الوطنية متقدة في نفوس الأجيال المتعاقبة، وتذكر دائمًا بأن “الجلاء” لم يكن مجرد تاريخ في التقويم،بل كان لحظة ولادة جديدة للأمة.
لذا أدعو القراء الكرام للولوج إلى مخازن هذه القصيدة العذبة (عيد الجلاء أتى يا وطني 2025) والاغتراف من معادنها النفيسة.إكراما لوطنية هذا الشاعر التونسي الفذ الذي ذاع صيته في أرجاء تونس وخارجها.( الشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي)
وأخيراً،فإن ما زعمنا انه قراءة،ليس إلا مفاتيح قراءات أخرى نأمل أن تدرس جوانب أغفلناها.مثلما آمل أن تدرس هذه القصيدة الوطنية الخالدة بالمعاهد والجامعات التونسية شحذا لهمم براعمنا التلمذية والطلابية القادمة في موكب الآتي الجليل.

هوامش:
*عيد الجلاء هو عيدٌ يحتفلُ به التونسيون في يوم 15 أكتوبر،وهو تاريخ جلاء (إخراج) آخر جندي فرنسي عن الأراضي التونسية يوم 15 أكتوبر 1963.
1-رشيد يحياوي: قصيدة النثر ومغالطات التعريف،علامات،م8, ح32, آيار 1999،ص56.
2-حميد لحمداني,القراءة وتوليد الدلالة،م. ث. ع ( بيروت ) ط1, 2003, ص70.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى