رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب : اللطف عنف آسر

هل صحيح اللطف يفتح كل الأبواب كما يقول المثل الإنكليزي؟ من أين تأتي قوة اللطف؟ من داخل أم من خارج الانسان؟ من السلطة والثروة والنفوذ أم من اللطف كجمال أبدي؟
اللطف ليس ارادة ولا ثقافة بل طبيعة ولايمكن ان يكون الشخص لطيفاً بالتقمص والتمثيل سوى وقت قصير لأن الدور منهك على جلف معتقل من داخله.
يقول إميل سيوران إنه صادف متسولين ومشردين لهم ملامح قساوسة ورهبان. ومن المؤكد عكس ذلك صادف أحدنا أجلافاً يترك مرورهم في حياتك رائحة عفنة تحتاج الى ألف قطعة موسيقية للنسيان وسبعة بحار للتطهير وعدة رحلات حج للتكفير عن خطيئة. مجرد التعرف على جلف وفظ يعد خطيئة بتعبير شكسبير.
الفظ لا يحترم أحداً. الفظاظة حجاب عن كل ما هو نظيف وحقيقي وصادق. كيف يحترم أحداً وهو فاقد الاحترام الذاتي ويحاول عن طريق الشراسة تعويض هشاشة داخلية ودونية ذاتية وكراهية النفس؟
الثقة بالنفس هادئة وعفوية ورقيقة وكل استعراض وتغطرس هو محاولة اخفاء مشاعر الاحتقار الذاتي. الشجاعة نوع من اللطف لا تحتاج الى استعراض لكن الجبان يحتاج كحل وهروب مؤقت لمأزق عميق.
عادة تترك المعاناة ملامح لطف ، يتحول الشحوب الى جمال آسر، الانهاك الناتج عن تجارب نظيفة نوع من السحر لكي لا أقول الاغراء الحكيم والأسر. حتى لو كنت حكيماً وعالماً بل لو كنت نبياً بلا لطف وغليظ القلب” لإنفضوا من حولك” وكل كتابك المقدس في جهة ولطفك في جهة أخرى.
” حتى الفضيلة تحتاج الى اللطف، وإلا فستكون عجرفة” يقول كازنتزاكي. العجرفة والغطرسة صفة الوضيع وسجنه الابدي. اللطف جمال دائم وثروة خارج الازمنة والمراحل والاعمار والمصالح والعناوين،
طيف داخلي ينبع من القيعان العميقة، في حالات يتحول اللطف الى سحر،
هل أقول هتافاً ؟
أول مرة سمعت العبارة هنا:” ليس كل جميلة لطيفة،لكن كل لطيفة جميلة” يقال ذلك عن الرجل أيضاً لأن اللطف لا يُجنّس.
اللطف خزين لا ينضب وحقل أزهار لا يذبل ونور لا ينطفئ بل يتجدد ولا علاقة له بالمساحيق والايام والاصباغ والمرايا. يمكن إنتحال اللطف لكن من المستحيل خلق الضوء الداخلي المشع من الملامح والكلمات والحركات لوقت طويل لان القناع منهك ومستنزف وعابر. اذا حدث وتعثرت بهذا المنتحل، تأكد انه لم يتغير بل قناع سقط. لقد تعب من التمثيل وقرر مغادرة المسرح وأنقذك رغم خسارة سعر التذكرة وانهيار سقف التوقعات .
اللطف طيف محلق حول الوجوه ينشر هالة من البهاء والنور والهيبة والحكمة ولو كان من عجوز متسولة، اللطف مضاد للعنف بل فضيجة الجلف.
ليس من المستغرب أن يكون اللطيف من أسماء الله، الرقة والعذوبة والرهافة والشفافية . خلود وأبدية. في حالات تشعر أمام جميلة أنك أمام تهديد داخلي وشيك،
أمام عنف وغطرسة وعدوان مقترب ووقاحة خفية وفخ بشع،
أو أمام قنفذ خشن، لأن الجمال بلا لطف ورد صناعي بلا رائحة، ربما جهاز الاستشعار المجهول فيك يقرع علامة الخطر، اكتشف العلماء هالات حماية تحيط بالانسان واجهزة استشعار داخلية تنذر بالخطر عادة ما يعبر عنها الانسان بعبارة” أشعر أن الامور ليست صحيحة، هناك خطأ ما ” رسائل تحذير كل لحظة تحتاج الى تفكيك وقراءة. الجسد لا يكذب مطلقا لانه طبيعة وليس ثقافة.
ربما الهالة المحيطة بك تستشعر الخطر عندما لا يتطابق الوجه أمامك مع أعماقه،عندما تكون أمام قناع جميل لكنه مخلب في الداخل. مرات شعرت بذلك في مصاطب مطارات أو حدائق عامة أو في علاقات شخصية. رسائل داخلية تمطر بالحذر واليقظة. لم يحدث ان تجاوزتها بلا ثمن فادح. هناك نوع من المعرفة الحسية تتجاوز بكثير المعرفة العقلانية المحدودة وفي الجسد اجهزة وحواس تفكر مستقلة عن العقل. في كل عضو جسدي عقل خاص وجهاز حماية.
مع كائن لطيف تشعر أنك في حالة ورع وصلاة ويقظة صباحية هادئة مع قهوة وشرفة وأمامك حقل أزهار أو وجه رضيع نائم. تشعر انك تنمو وذاكرتك كحقل ازهار تحت المطر وانك تحاول الركض جذلاً في برية مفتوحة كجواد بري.
اللطف يتجاوز اللغة، هو أعمق من الكرم والرقة والنور والصفاء،
لا يحتاج اللطيف الى مرايا وأصباغ ، هو يرى نفسه بلا أثقال من مراياه الداخلية. اللطف اكتشاف عكس الجمال الخارجي المرئي
والمكشوف،
هناك جمال يشبه الفجور والرخاوة والاستهتار. في حالات نادرة يلتقي
اللطف بالجمال في مزيج أو خلطة من الغسق المحترق بالضوء وبرية بيضاء مفتوحة على الفرح،
ستكون أمام جمال بري غير مدرك لنفسه ولا يعرف جماله كما لا تعرف
الوردة ولا النجمة ولا الساحل ولا الطفل.
لو وقع نظرك على هذه الخلطة من الجمال واللطف، توقع رعشة أو حتى صعقة أو انهيار أو نعاس عابر.
يمكن أن يكون الانسان لطيفاً وحاسماً في آن واحد لأن اللطف لا يتعارض مع الحسم بل الحسم نقيض النفاق والمجاملة وهو وجه آخر للوضوح الجميل. الذين يخافون من حسم اللطيف يخافون من الفشل في السيطرة عليه. كيف تسيطر على شفق مشع أو طيف متعدد أو غروب متوهج؟
إياك واحترام الوضيع والذليل والمتغطرس لانه تربى على الاحتقار وسيخلق الفرصة لاهانتك للتعويض عن ذل معتق : كان العرب الحكماء القدماء ينصحون: “لا تؤانس الذليل” ستصغر بعينه لكنك لو آنست اللطيف ستكبر في عينه . ألم يقل رائي العصور ومؤسس الحداثة الشعرية حتى اليوم المتنبي لان الحداثة ليست شكلاً بل محتوى:
” عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ ــــــــ وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ ــــــــــ وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها ــــــــــ وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ”؟.
او:” اذا اكرمت الكريم ملكته_ واذا أكرمت اللئيم تمردا”.
اللطيف لا يعرف الخيانة ولا الكذب ولا الجبن ولا الفخ، عادة ضوء النجوم أو ضوء القمر لا يكبل نفسه بأثقال، الخسة نوع من الدنس، النفاق اعتقال ذاتي.
اللطف هتاف ونداء وبشارة. عندما قال لافونتين:
” اللطف يفعل أكثر مما يفعل العنف” كان صائباً وعميقاً لأن الخطأ مع اللطف هاوية. لا يحترق اللطيف لو اشعلت حوله كل النيران لأن نوره داخلي وعزلته مضيئة وعميقة تحتاج الى غواص.
عادة يأتي اللطف في الأمثال مع نزول البلاء كحل أو علاج أو خاتمة. مع اللطيف تشم عطر زهور البرية و تشعر بالطمأنينة والتفتح
ومع المتغطرس القناع تشم رائحة براز وعفن معتق.
احترام اللطيف ورع وايمان وجمال ومتعة واحترام الوضيع مثل وضع زهور في مرحاض أو الوقوع في حفرة نجاسة في الظلام والعلاقة معه نوع من التلوث.
اللطف غزو هادئ وتشعر مع الوقت أنك في حالة نعاس ظهيرة بلا ثقل،
أو حلم كثيف وشفاف وفي مشروع أكبر منك، وأنك في حالة نمو ونضج كحقل قمح في صيفه الأخير،
لكن مع جمال قنفذي فظ تشعر برغبة إستحمام من دنس ناعم وسري كسم بطيء.
أمام كائن لطيف لا أشعر برغبة في الكتابة، اللطف نفسه خلق وإبداع وهو ليس ثقافة بل طبيعة، اللطيف غريب في المدينة اليوم،
أمام براءة غافية ووجه برّي تنزلق فوقه أحلام هادئة كغيوم بيض
كضوء ناعم فوق الرخام تولد أحلام شفافة.
الجمال غير المدرك لنفسه هو وصف اللطف المركز كوجه طائر نافر في حقل عشب مشمس.
الرحلة مع لطيف نوع من التطهير، تقترب من الخلق وتمضي لخلود اللحظة.
لكن اللطف كباقة أزهار يجب أن تعطى لمن يستحق لا أن توضع على رقاب الخنازير.
اللطف براءة وهدية مشعة وامتلاء ونشوة ، هو نوع من التطهير وطيران فراشة نحو النار، صلاة خاصة وعناق لمن تعرف
أو لا تعرف ومحاولة عناق كل ما هو نقي في الحياة حتى لو كان الثمن العزلة أو الموت. عزلة اللطيف ليست عن غطرسة وانانية بل عن تحاشي الوقوع في مسرح للتمثيل. لا تحترق عزلة اللطيف أبدا أمام كل أنواع القوة والغطرسة بل تُحرق. اللطيف يُضيء عندما يحترق ولا ينطفئ.
إياك أن تعتقد أنك فهمته لمجرد أنه تحدث اليك بلطف لأن هناك أشياء عميقة لا تنبش بالثرثرة كما قال دويستوفسكي الذي بدوره ساعد الجميع وتعرض للإساءة من الجميع لكنه لم يتراجع وجعل من هؤلاء فرصة للدرس والغوص العميق في الشر الخفي وحقق ما عجز عنه علماء النفس حتى اليوم.
قال الرسام الشهير فان كوخ:
” ـــ لطالما دفعت بي حاجتي إلى الحنان، لالتماسه عند أشخاص كانوا يحاولون تدميري ” حتى الذين أهدى لهم لوحاته ظهرت الوثائق انهم كتبوا عليه تقريرا للشرطة على أنه مجنون ووضع في مصح سان ريمي للأمراض النفسية لكن كوخ لم يغير حياته بسبب أراذل بل تمسك أكثر بكل ما في الحياة والطبيعة من جمال وضوء وأزهار رغم حياة قاسية. من أين كان ينبع كل ذلك الجمال في لوحاته؟ من نوره الداخلي.
حتى لو وقع اللطيف في خطأ ما، فليس الأمر عن تخطيط أو أذى بل يحدث عن سهو أو سوء تقدير أو تقاطع ظروف غامضة أو توفر شروط الخطأ: ماذا يحدث لو دخل الانسان في منجم فحم؟ لن يخرج بقميص ناصع البياض بلا بقع. لكنها أخطاء البراءة. اللطف نوع من الغفران ومن النسيان الحكيم والجميل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى