د. فيروز الولي تكتب :من رحم السفارة يولد السفير: الكفاءة في إجازة والتوريث في مهمة رسمية!

في اليمن، لا تحتاج إلى شهادة في العلاقات الدولية أو خبرة في العمل الدبلوماسي لتصبح سفيرًا.
كل ما تحتاجه هو لقب الأب، وختم العائلة، وسيرة ذاتية مكتوبة بحبر الوراثة لا الكفاءة.
فوزارة الخارجية اليمنية اليوم تمارس “الحبل السُريّ الدبلوماسي” بكل براعة؛
فمن رحم السفارة يُولد السفير، ومن صالة الاستقبال تُدار العلاقات الدولية، ومن البيت العائلي تُمنح التمثيلات.
دبلوماسية التوريث: من رحم السفارة إلى المندوبية الدائمة
التعيينات في السلك الدبلوماسي اليمني لم تعد مسألة كفاءة أو مؤهلات،
بل تحوّلت إلى نظام أسري مغلق، حيث يورّث المنصب كما تُورّث العقارات والمزارع.
يُعيَّن الأب سفيرًا، ثم الابن أو الابنة مستشارًا، ثم الحفيد نائبًا، وهكذا تستمر السلسلة حتى تُصبح الوزارة وقفًا ذريًا دبلوماسيًا.
السفيرة أسمهان الطوقي: وزارة خارجية بعباءة واحدة
نموذج صارخ لذلك هي السفيرة أسمهان عبد الحميد الطوقي، ابنة سفير سابق.
تشغل عددًا مذهلًا من المناصب الدبلوماسية، حتى باتت “وزارة خارجية متحركة”:
سفيرة اليمن لدى إيطاليا
مندوبة دائمة لدى المنظمات الدولية في روما
سفيرة غير مقيمة لدى صربيا، اليونان، والفاتيكان
ممثلة دائمة لليمن في الصندوق الدولي للتنمية الزراعية (IFAD)
عميدة السفراء العرب في روما
منصب فوق آخر، ولقب فوق لقب، حتى صار المشهد أقرب إلى سوبرماركت دبلوماسي بعلامة تجارية واحدة:
“عائلة الطوقي – دبلوماسية عائلية منذ عقود!”
أما مؤهلها الدراسي الرسمي فغير معلن رسميًا في أي وثيقة صادرة عن وزارة الخارجية اليمنية أو المنظمات الدولية في روما،
ما يثير تساؤلًا مشروعًا:
هل أصبح الغموض الأكاديمي هو المؤهل الجديد في التعيين الدبلوماسي؟
الرواتب والحوافز: رفاهية على حساب الوطن
بحسب تقارير مالية منشورة، تتراوح رواتب السفراء اليمنيين بين 83,205 و108,879 دولارًا سنويًا،
إضافة إلى بدل السكن والمعيشة والتأمين الصحي وبدل التمثيل.
وفي بلد يعيش أكثر من 70% من مواطنيه تحت خط الفقر (تقرير UNDP، 2024)،
تبدو هذه الرواتب وكأنها معاشات ملوكية تُصرف في زمن جمهوري فقير.
القانون اليمني والعُرف الدولي… شاهدان على العبث
ينص الدستور اليمني في المادة (27) على أن:
“تكافؤ الفرص حق مكفول لجميع المواطنين في الحقوق والواجبات دون تمييز.”
وفي المادة (20):
“الوظيفة العامة خدمة وطنية تُناط بالمواطنين على أساس الكفاءة.”
لكن في وزارة الخارجية، تُترجم هذه النصوص إلى:
“الوظيفة العامة تُناط بالأقارب على أساس الولاء العائلي.”
أما اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية (1961)،
التي تنظّم السلوك الدبلوماسي بين الدول، فتؤكد في مادتها السابعة أن:
“تعيين المبعوثين يتم وفق تقدير الدولة الموفدة.”
لكن لا وجود في نصوصها لأي مادة تقول:
“ويجوز التعيين بالوراثة، أو بالمصاهرة، أو بالعلاقات الخاصة.”
هكذا تتبدد الأعراف الدولية تحت شعار “ابني أدرى بالمهمة”،
وتتحول الدبلوماسية اليمنية إلى نظام عائلي مغلق محمي بجواز سفر دبلوماسي.
النتائج: دبلوماسية عاجزة ووطن غائب
حين تتحول السفارات إلى ملحقات عائلية،
يُصبح التمثيل الخارجي تمثيلًا شكليًا،
ويُستنزف المال العام في تمويل الإقامة الفاخرة لأبناء النخبة،
بدل تمويل الطلاب اليمنيين في الخارج أو دعم خدمات المغتربين.
تقرير Transparency International (2024) أشار إلى أن
“ضعف المحاسبة في التعيينات الخارجية ساهم في تآكل صورة اليمن الدبلوماسية عالميًا.”
فيما أدرج مؤشر الحوكمة العربية (2023) الخارجية اليمنية ضمن أكثر المؤسسات “عائلية التكوين والولاء”.
الخاتمة: وزارة الخارجية اليمنية… مكتب توريث لا مؤسسة سيادة!
لقد تحوّلت وزارة الخارجية اليمنية من صرح وطني يُفترض أن يرفع اسم اليمن في المحافل الدولية، إلى سجل مدني لتوريث المناصب.
لم تعد الدبلوماسية “فن الممكن”، بل فن المحسوبية.
ولم تعد السفارات بوابات للوطن، بل غرف نوم لعائلات النفوذ.
حين تصبح بنت السفير سفيرة، وصهر الوزير ملحقًا، وابن المدير مستشارًا، فاعلم أن الوزارة لم تعد تمارس السياسة…
بل تمارس القرابة بالنيابة عن الدولة.
الخارجية اليوم تشبه ملهى سياسي مغلق: الموسيقى فيه نشيد الوطن،
لكن الراقصين ليسوا من أبناء الوطن، بل من أبناء الدبلوماسية الوراثية.
إن الدبلوماسية ليست لقبًا يُمنح، ولا ميراثًا يُورث،
بل مسؤولية تُحمَل.
فمن لم يتدرّب على حمل ملفّ وطني، لن يستطيع حمل علم وطني أمام الأمم.
حتى تُغلق ملفات الوراثة وتُفتح ملفات الكفاءة،
سيبقى السؤال الذي يجلد الذاكرة الدبلوماسية اليمنية:
من يمثل اليمن في الخارج؟ الوطن… أم العائلة؟
لقد آن الأوان أن تُعاد وزارة الخارجية إلى مسارها الطبيعي
وزارة تُمارس الدبلوماسية باسم الشعب، لا باسم “آل السفير”.
فاليمن لن يُستعاد بقرارات وراثية، بل بثورة أخلاقية داخل الخارجية نفسها.
وحين يُقطع آخر “حبل سُرّيّ توريثي”، عندها فقط…
يولد أول سفير يمني حقيقي من رحم الوطن، لا من رحم السفارة.
المراجع القانونية والدبلوماسية:
1. الدستور اليمني، المواد (20، 27، 142).
2. اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية (1961) – المواد (2، 4، 7، 9).
3. تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP, 2024) – التنمية البشرية في اليمن.
4. Transparency International (2024) – Yemen Corruption Index.
5. Freedom House (2023) – Yemen Country Report.
6. Arab Governance Index (2023) – تصنيف الحوكمة في الدول العربية.
7. بيانات الرواتب الدبلوماسية (U.S. State Department, 2023) – Foreign Service Compensation Data.