كتاب وشعراء

صعقة الحب..ولسعة الفراق..قراءة فنية في قصيدة الشاعر العراقي السامق الأستاذ قاسم عبدالعزيز الدوسري”هنا..كان اللقاء المنتظر…”بقلم محمد المحسن

قد لا يحيد القول عن جادة الصواب إذا قلت أن القراءة في القصيدة العشقية هي رحلة شيقة عبر أحد أقدم وأغنى الأجناس الأدبية في التاريخ. هذه القراءة تحلل القصيدة العشقية ليس ككلمات متتابعة،بل كعالم متكامل من المشاعر والرموز والبناء الفني.
والحب هنا ليس غاية في حد ذاته،بل هو وسيلة للتأمل في معنى الحياة،الموت،الزمن،الوجد،الحب، الشوق والوجود الإنساني بكليته..
من هنا،فالقراءة في-القصيدة العشقية-هي عملية كشف عن طبقات متعددة: طبقة من المشاعر، وطبقة فنية من الصور والرموز،وطبقة عميقة من الفلسفة والوجود.إنها ليست مجرد وصف لحب بين شخصين،بل هي سيرة ذاتية للمشاعر الإنسانية في أعمق تجلياتها،مما يجعلها صالحة للقراءة والتأمل في كل عصر.
والعشق في قصائد الشعراء ( قصيدة الشاعر العراقي الكبير الأستاذ قاسم عبدالعزيز الدوسري
“هنا كان اللقاء المنتظر..”-نموذجا) ليس مجرد موضوع عابر،بل هو مادة فنية خصبة وأسلوبية متعددة الأبعاد شكّلت أحد أهم أركان الشعر عبر العصور.إنه الوعاء الذي صُبّت فيه أعمق المشاعر الإنسانية،والمختبر الذي جُرّبت فيه أجمل الصور البلاغية والألفاظ الموحية.
لذلك،يبقى العشق هو “ملك الموضوعات الشعرية” لأنه الأكثر قدرة على استدعاء الإبداع الجمالي والأسلوبي،والتعبير عن ذلك التناقض الإنساني الأزلي:صغر الجسد أمام عظمة المشاعر،وعجز اللغة عن احتواء كمال الجمال.وقد أبدع الشاعر الكبير أ-قاسم عبدالعزيز الدوسري” في استدعاء الإبداع في أبهى تجلياته من خلال قصيدة ” عشقية” صيغت بمداد القلب،ورحيق الروح..تابعوها معي،حيث يتناغم وزن القصيدة وإيقاعها مع حالة العشق.ففي لحظات الشوق يكون الإيقاع متوتراً،وفي لحظات الوصف الهادئ يكون الإيقاع أكثر سلاسة.
“هنا
كان اللقاء المنتظر…
وقت الغروب
عند السحر..
حين التقينا الوداع…
والرأس
يطرقه الصداع…
كالمطرقة
فوق الحجر…
والقلب تملئهُ الهموم…
مثل الغيوم
حين تحجب عند المساء
ضوء القمر
حين التقينا
والدموع النازلات من العيون
وكأنها زخُ المطر…
مثل الليالي…
حين تحترق الشموع…
لم يبق من بريقها
أي أثر
هذا المكان بهدوءهِ
وحمرة الشمس على ماء البحر
هنا التقينا للقاء
وهنا التقينا للوداع
ياسخف ما أخفى القدر
ياسخف ما أخفى القدر

قاسم عبدالعزيز الدوسري

خيال شاسع وواسع لدى-إبن دجلة..والفرات- ( أ-قاسم عبد العزيز الدوسري)،يصنعه هذا الشاعر المتمرس،ببراعة واقتدار،بارتصاف كلماته وعباراته الشعرية،وعنصر الدهشة في الانتقال بين الصور والأبيات الشعرية.
تتميّز هذه القصيدة المترعة بغيوم-العشق الصوفي-رغم زخات الألم ومطارق الأسى بفعل لوعة الفراق،بكيميائية اللغة الشعرية الجميلة وتفاعلها في تركيب شعري عذب جميل له تأثيره في نفس القارئ،حيث يتجلى الفعل الدرامي (الحبكة العاطفية) إذ لا توجد حبكة تقليدية بالمعنى السردي،ولكن هناك تيار من المشاعر يتطور عبر المحطات:
– لسعة الحب:لحظة الصعقة التي غيرت حياة العاشق.
-الفراق واللوعة(سردالحكاية العاطفية) :ذروة المعاناة،حيث يبلغ الألم أشده.وهنا أشير إلى أن الكثير من القصائد تُبنى على قصة حب حقيقية أو متخيلة،كقصة “مجنون ليلى” لقيس بن الملوح،أو “قصة حب” في الشعر الحديث.يصبح العشق هنا حبكة درامية تنتقل بين أطوارها: اللقاء،الشوق، الفراق،الألم،أو الوصال.
الفضاءات والطقوس:
الأطلال / الديار: أماكن الذكرى،ترمز للزمن الجميل الذي ولّى.”هذا المكان بهدوءهِ
وحمرة الشمس على ماء البحر..”
· الليل: رفيق العاشق،حيث يسمح له بالبكاء والمناجاة بعيدًا عن أعين الرقباء.”مثل الليالي…
حين تحترق الشموع..لم يبق من بريقها..أي أثر..”
· وهنا أضيف:تتمثل‭ ‬شعرية -إبن عاصمة الرشيد-* ( الأستاذ قاسم عبدالعزيز الدوسري) في‭ ‬اللغة‭ ‬ومؤولاتها‭ ‬الثرية،‭‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬القارئ‭ ‬يسبح‭ ‬في‭ ‬فضاءاتها‭ ‬مزهواً‭ ‬بدهشتها‭ ‬الإسنادية،‬وبكارة‭ ‬ما‭ ‬تبثه‭ ‬من‭ ‬دلالات‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الفني‭ ‬والجمالي‭. ‬
إنه الشاعر العراقي المولود بالشعر،الممسوس به،والمعجون بجسده وتكوينه وكينونته الأولى،لذا فلا غرو أن تتحول السيرة الشعرية لعاشق الشعر إلى هيام وولع،بل صلاة للشاعر المتصوف في رحاب حضرة الشعر المقدس،والجميل..المضمخ بالحب..والمطرز بدموع الفراق،والذي يمثل لديه كل شيء،وقبل أي شيء،وبعد أي شيء.إنه الشعر ولا شيء سواه..الشعر الذي يمثل اتجاهه،وقيمه،وعالمه،وطبائعه الجمالية الحالمة،والشعر الذي يصوح مع مفرداته كالمجذوب في حضرة الذّكر/ الشعر/ النص/ القصيدة/ السرد الشعري/ السيرة الشعرية،وغير ذلك،فنراه يتحلّق حوله،ويطوف معه،ويسافر على ظهر براقه،ليعرج إلى معارج الكون،عبر سماوات الخيال والواقع،وعبر مركبة الشعر الوحيدة التي صنعها بتفرّده “شعريار” البطل في الكون الشعري الممتد.
ولنا أن نصف الشاعر المتمرس أ-قاسم عبدالعزيز الدوسري بأنه الناسك،والراهب
الشعري،والمتصوف،والعاشق،وعزّاف الروح،والملاح التائه في بحر الشعر،وغير ذلك..
ولا أجد-هنا-أجمل من قول “كارل ساندبرج”: “الشعر يوميات يكتبها كائن بحري يعيش على البر حالماً بالطيران.”
وأرى شاعرنا أ-قاسم عبدالعزيز الدوسري-قد جاوز ذلك أيضاً،فهو شاعر،وإنسان،وعاشق،ومبدع،يعيش بين ضلوع وحنايا القلب،يكتب بريشة الحب سفر الإنسانية الخالد لكتاب الشعرية الأبديّ الممتد بين سماوات الكون،وسهول الأرض الممتدة بالاخضرار والحب والشعر أيضاً.
على سبيل الخاتمة : مما لا شك فيه أن قصائد الحب التي تتناول ألم الفراق والوداع هي من أكثر القصائد تعبيراً عن شجن المشاعر الإنسانية،حيث تخلّد اللحظة التي يتحول فيها الحب من دفء اللقاء إلى برودة الغياب.
هذا الألم ليس مجرد حزن عابر،بل هو جرح عميق يترك بصمته على الروح..
وفي لحظة الوداع،يتوقف الزمن ويشعر الشاعر بأن العالم من حوله ينكسر.لا يعود المكان كما كان،ولا الزمن كما عُهد.
خلاصة القول :قصائد ألم الفراق والوداع هي ترنيمة حزينة تُغنّى على أوتار القلب المكسور.إنها ليست مجرد بكاء على الماضي،بل هي محاولة يائسة لإحياء ذلك الماضي في عالم الكلمات،كي لا يموت الحب تماماً.هي شهادة على أن الحب الحقيقي لا ينتهي برحيل الجسد،بل يتحول إلى شوق أبدي،وندبة في الروح،وقصيدة تروي ألم الوداع الذي لا ينتهي.على غرار القصيدة الرائعة لشاعرنا الفذ الأستاذ قاسم عبدالعزيز الدوسري”
لك مني يا-أ-قاسم- سلة ورد..وباقة من التحايا تعبق بعطر قرطاج..
وأختم بترنيمة الشاعر العراقي الراحل مظفر نواب التي لا تخلو من ايحاءات ودلالات أشرت إليها في سياق هذه المقاربة العجولة ” ان النهر يظل لمجراه امينا..ان النهر يظل..يظل..يظل امينا
ان النهر يظل..فأين امرأة توقد كل قناديلي؟!
فالليلة تغتصب الروح حزينا..”..آملا أن ينبلج فجر عشقك من جديد..وتشرق الروح على ضفاف القلب الحزين..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى