رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب :تاريخ العاطفة

كُتب على العربي أن يخفي الجزء الجوهري من حياته وهو التاريخ العاطفي،
وأما من يتجرأ على البوح بها وفتح تاريخ العاطفة بالمعنى الواسع كالأمل والصداقة والحب والخيبة والاحباط والفشل، فعليه تحمل الأسوأ.
عليه ألا يظهر ضعفه الانساني أمام حوادث مزلزلة ولا يكشف عن أحزانه لأنها تتناقض مع ذهنية الفروسية وأن ينزف واقفاً دون توجع وأن يرفع علامة النصر مبتسماً وفي صدره ألف رصاصة ، بإختصار أن يكون كل شيء إلا أن يكون بشراً بل أقرب الى الصنم.
تمارس المجتمعات المغلقة كل شيء حتى الجريمة بسرية وكتمان ولا تخاف او تخجل من الجريمة السرية لكنها تخاف وتخجل من التعبير عنها والعلنية، عكس المجتمعات المفتوحة التي تتصف بالوضوح والاعتراف والشفافية ولا تخجل او تخاف من الاعتراف لانه جمال وصحة وشجاعة. مجتمع الاسرار المغلقة يتعفن من الداخل بصمت لكن هذا الصمت والتراكم لن يطول والنتيجة الانفجار أو الانهيار.
بكل بساطة يروي اللصوص أو الشركاء أو القتلة علناً سرديتهم المشوهة عن الجرائم في الشاشات بكل اريحية أمام جمهور متقبل وترتفع لغة هتك الاعراض خلال الحملات الانتخابية كما لو أن الاخلاق تنتهي صلاحياتها عند التخاصم، وللأمانة أن المحتوى الهابط والضحل لم يتأسس في داخل العراق بعد الاحتلال بل تأسس في الخارج ورواد هذه الضحالة الأخلاقية لم يتركوا لغة سوقية إلا ومارسوها ونقلوا لغة المواخير وحانات الحثالات الى لغة السياسة ويمكننا يوما أن نعلن أسماء هؤلاء بكل وضوح لأن هذا تاريخ منسي والناس قبل الاحتلال كانوا في قطيعة اعلامية مع العالم ولا يعرفون ماذا دار في صحف المعارضة ومواقعها من استهتار شنيع وفجاجة غير مسبوقة في الاعلام العراقي في أسوأ الظروف.
مقابل هذا الاخفاء القسري للعواطف الانسانية يسمح للمواطن الى حد ما الحديث عن الحدث السياسي ، ويمكنه التعبير عن ذلك طالما هو فاقد القدرة على التفكير، أي تجريده من آدميته وإنسانيته وتحويله الى ” كائن سياسي”،
لذلك كتب ميلان كونديرا عن رواية جورج أورويل” 1984″ بغضب ووصف أورويل أنه اختزل الإنسان بالسياسة وضيق عالمه الشاسع من مشاعر وعواطف وغرائز.
في رواية جورج اورويل 1984 يعمل وينستون في وزارة تسمى ” وزارة الحقيقة” ووظيفته تزييف الحقائق لكنه في أعماقه غير مقتنع هل هو يعيش في واقع حقيقي أم في واقع مزيف ويحلم أن يكون متمرداً،
لكن صديقته وزميلته جوليا المتمردة ببساطة وعفوية لمصلحتها الشخصية تنصح وينستون بالقول ساخرة منه:
” التمرد الفكري لا يعني كونك متمرداً من الخصر إلى الأسفل”.
وماذا تفعل جوليا وقد عرفت ان العلاقة معه مستحيلة اذا كان وينستون مصادر العقل وتركوا له الخصر وما تحته؟ وهذا النوع من التمرد تسمح به نظم دكتاتورية شرط ألا يتحول الى تمرد من الخصر الى الأعلى.
يخشى العربي كتابة سيرة ذاتية أو سيرة ذاتية روائية أو أدب الاعترافات أو اليوميات الواضحة لأنه لا يريد أن يكون في مواجهة المؤسسة السياسية والاعلام والمجتمع والتكوينات الأخرى.
حتى نجيب محفوظ تحاشى كتابة سيرة ذاتية لكي لا يقع في مشاكل، أدونيس قال إنه لا يجرؤ على ذلك للسبب نفسه، ويوم كتب محمد شكري المغربي ” الخبز الحافي” سيرة ذاتية روائية تعرض للشرشحة والتشهير حتى تداعى ورقد في مستشفى تطوان للامراض النفسية ولم يقف معه غير الدكتور الناقد والروائي محمد برادة وسانده ودعمه في تلك المحنة ونشرت رسائلهما المتبادلة من المصح في كتاب” ورد وشوك” يعكس مشاعر شكري واحباطاته وفي الوقت نفسه نبل وشجاعة الدكتور برادة الذي لم يندفع مع” الجو العام” وحافظ على استقلالية المثقف بيقين ثابت حتى تشافى شكري.
ظاهرة السيرة الذاتية تحتاج الى مناخ ديمقراطي اجتماعي أولاً، ومناخ سياسي يسمح بذلك ثانياً، وعكس ما يتوقع البعض ان تكون السيرة عارية ومفتوحة بلا حدود بل يمكن استعمال البوح والرمز والتشفير والمجاز وغير ذلك من وسائل الكتابة الحية الملتزمة.
عندما نشرت دار” بيرغمان” في النرويج سيرتي الذاتية الروائية” الأعزل” عام 2000 وهي تاريخ وطن في رجل لأننا في الحقيقة لا نملك حياة خاصة كالأوربي في دولنا ــــــــــ وهي أول سيرة ذاتية روائية عراقية ـــــــــ قام طارئون ومنتحلون عراقيون في عالم الكتابة باستعمال بعض الفقرات منها ” كمعلومات وصلته عن المؤلف” وحكاية وصلت المعلومات أو ملفك عندي من قاموس رجال الأمن بلغة زبائن حانات الحثالات الرخيصة. كل منتحر أو قتيل أو نزيل مصح عقلي صار الكاتب هو القاتل وتم الدمج الأبله بين الراوي وشخصياته والمطابقة الحرفية بينهم، ومن حسن حظ أجاثا كريستي أودويستوفسكي أو شكسبير وكامو ليسوا عراقيين لأن أعمالهم تمتلئ بالقتلى والمجانين وإلا طالب هؤلاء ” اللاجئون الى الأدب” بمحاكمتهم.
و”السيرة الذاتية الروائية” تختلف عن “السيرة الذاتية” لأن الأولى تستعمل تقنيات العمل الروائي ومزج الواقع بالخيال وليس نقلاً حرفياً للواقع أو تطابقاً معه، في حين تشترط السيرة الذاتية المطابقة والتوثيق للوقائع. وهؤلاء الجهلة لا يفرقون بين أفعال شخوص السيرة الذاتية الروائية التي قد تكون نصفها خيال ونصفها الآخر واقع وبين السيرة الذاتية الوثائقية كما حددها الناقد الفرنسي فيليب لوجون في كتابه المرجعي: السيرة الذاتية: الميثاق والتاريخ الأدبي”،
وفي هذا الكتاب فرق بين السيرة الروائية والسيرة الذاتية وبين أدب الرسائل والاعترافات ونحن نخلط بين هذه الأجناس.
الغاء تاريخ الانسان العاطفي الغاء للجانب العميق من حياة الانسان وهناك من كتب سيرة ذاتية روائية بلغة متقشفة محافظة رصينة مقتصدة. أسوأ ما في الأمر أن العربي تقبل هذا” الالغاء” كجزء من شروط المؤسسة مع انه اسئتصال لأعمق ما في حياته من مشاعر وعواطف حية كما لو انه نوع من الخصاء العاطفي بعد العقلي. محزن ان يخاف الانسان من البوح عن عواطف صافية ونقية في حين صار القتلة هم الرواة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى