مصطفي السعيد يكتب :عندما فتحت فؤاده الهويس في 7 أكتوبر

لم تتحمل فؤاده (المقا.ومة) مظالم وجبروت عتريس وعصابته، خاصة عندما رأت الزرع يموت في عقاب جماعي، والدهاشنة العرب لا يفعلون شيئا سوى كتم الأحزان أو البكاء أو التسليم بأمر واقع. امتدت أيدي فؤادة لتفتح الهويس، وتروي الأرض العطشى، وسط تهليل بعض الدهاشنة الغلابة، وخوف آخرين من رد الفعل المدمر لعتريس وعصابته، وقفت فؤادة أمام بندقية عتريس، مستعدة لتلقي الطلقات برأس مرفوعه، رأى عتريس أن أفضل حل أن يجرها إلى قلعته كزوجة، إنه خير حل، أن يروضها، ويجعلها جزء من عصابته، وينهي أسطورة “فتح الهويس”، أبوها حافظ كان مغلوبا على أمره، لم يسطع رد طلب عتريس، قال لزوجته فاطمة “أعمل إيه يا فاطمة أمام عتريس وعصابته؟ والشهود على العقد الباطل كانوا كالحكام العرب، وجدوا تبريرا للزواج بالإكراه، إنها سوف تستسلم وتريحنا من غضب عتريس عندما تنصاع وتدخل بيته كزوجة، عندها سيكون الزواج شرعيا. لم تستسلم فؤادة، وصممت أنه لم توافق على الزواج، وأنه باطل، وعندما هددها عتريس بالقتل “قالت له” تقدر تموتني”، (لكن مش هتقدر تموت القضية). فاطمة أم فؤادة صممت على الوقوف إلى جانب إبنتها المحاصرة، كانت مثل اليمن، ورغم ضعفها، لم تخف من بنادق عتريس. دبت روح جديدة في الدهاشنة وشبابها، والحاج إبراهيم (رمز الدين المقا.وم) صمم على أن الجواز باطل، أغرقوا زرعه ليصمت، لكنه قال “إغرقوا الزرع، احرقوا البيت، لكني لن أصمت على أن الزواج باطل”، وعندما نبهه العصفوري أحد مساعدي عتريس بأن ما يقوله سيجر عليه الويلات، وأنه لن يبلغ عتريس بتحديه، قال الشيخ إبراهيم “صوتي هيوصل له”. أمر عتريس بقتل إبنه محمود ليلة زفافه، كانت أشد الجرائم وحشية، هزت الضمائر، كسرت حاجز الصمت، وتحولت جنازة محمود إلى أكبر مظاهرة في وجه الظلم، وأصبح شعار “جواز عتريس من فؤادة باطل” أشهر جملة في تاريخ السينما المصرية. إنها رمز التحدي لجبروت الإحتلال والإذلال. لا اعتراف ولا شرعية باحتلال فلسطين. انكسر الخوف، وتحولت الإنتفاضة إلى عمل ثوري، ورجال عتريس بدأوا يتخلون عنه، بل أغلق عليه مساعده “العصفوري” الباب ليضحي به، وينجو بنفسه من غضب “الدهاشنة”، كانت الإنتفاضة تجوب شوارع القرية، والشباب يحملون جثمان محمود، والشيخ إبراهيم دامع العينين على إبنه الذي تحول زفافه إلى مأتم، لكنه لم يكف عن الهتاف، والكتابة على الجدران، حتى حاصرت الإنتفاضة بيت عتريس وأحرقته.
مشاهد كثيرة في الفيلم الملحمي “شيء من الخوف”، تجعله جديرا بالأوسكار، ومحمود مرسي كأحسن ممثل في تاريخ السينما العربية. كان مشهد فتح الهويس، ونشوة فؤادة (شادية) ثم الحوار الصامت بنظرات الأعين بين فؤادة وعتريس، وبين رجال عتريس من أقوى المشاهد السينمائية. كذلك مشهد الجدل الديني بين المأذون والشهود، الذي يذكرنا بمفاوضات السلام العربية مليء بالمعاني، الخوف وتبرير الإستسلام بالفقه، حتى لو تعارض مع جوهر الدين، هكذا الإسلام الشكلي. أما مشهد الشيخ إبراهيم وهو يتحدث للمصلين، وقال له أحدهم لماذا لا تذكر شيئا عن إنعام “الغانية”؟ قال الشيخ إبراهيم: مسألة إنعام شخصية، ليست القضية، نشوفها بعدين. أما المواجهة بين عتريس وفؤادة بعد زفافها القسري إليه، فمن أروع الحوارات”. فؤادة صامدة لا تلين، وعتريس يتنقل بين التهديد والإغراء، لكنه لا يستطيع السيطرة عليها، وهي السجينة والضعيفة، لكنها الأقوى بإرادتها وصدق وعدالة قضيتها. وكانت الجمل التي قالها عتريس الجد مأثورات سياسية، أهم من كتب سياسية، فعندما قال العصفوري لماذا لم نقتل شعلان مع أخيه سالم قال عتريس الجد، لما نقتل سالم، شعلان يدفع الأتاوة، أما لو قتلنا الإتنين، مين يدفع الأتاوة؟ ولما ذهب إلى مأتم سالم قال لشعلان وهو يبحث عمن يقف إلى جانبه “بتبص لمين؟ كلهم خايفين.. شيء من الخوف ما يؤذيش.. ليردد شعلان بلد ميت، ناس أرانب. وكانت وصيته للحفيد ما معناه .. إذا أغفلت عينيك لحظة سيقتلوك كالعصفور، كلهم لهم ثأر معنا، ليس أمامك إلا أن تواصل القتل وبشراسة، ليظل الخوف يكبلهم.
تذكرت فيلم “شيء من الخوف” اليوم، ووجدته قريبا من تفاصيل قضيتنا حاليا بعد أكثر من 60 عاما على إنتاجه. يحتاج الفيلم إلى إعادة إعتبار، خاصة مشاركة الأبنودي في الحوار وكتابة الأغاني والهتاف، وموسيقى بليغ حمدي والكورال الذي أضفى الجو الملحمي على العمل السينمائي الفذ “شيء من الخوف”.