حسام السيسي يكتب :هبة الجياع القادمة: بين غزة التي تجوع بكرامة ومصر التي تتآكل بالصمت

شاهدت منذ قليل، مصادفةً، صورًا لأهالي غزة وهم يتلقّون مساعدات غذائية، بعضهم يغطّي وجهه بأواني الطهي أو بما تيسّر له ليحفظ شيئًا من كرامته، فتوجّع القلب.
لكن وسط الجوع والحصار، كانت المفارقة أن هؤلاء الناس، الذين يُفترض أن ينهاروا من شدة الحاجة، يقفون في صفوف منتظمة، دون تدافع، دون فوضى، دون أن يفقدوا إنسانيتهم. مشهد كهذا يصعب أن تراه في شعوب أخرى لا تعرف المجاعة، لكنها تتدافع في الأسواق والمنافذ والصفوف، من أجل سلعة مدعومة أو خدمة زهيدة.
هذا المشهد لا يثير الشفقة بقدر ما يثير التساؤل عن معدن الشعوب وعن المعنى الحقيقي للصمود. غزة تجوع بشرف، فيما تجوع مجتمعات أخرى وهي تلهث خلف وهم الشبع.
ربما لا أملك القدرة الكاملة على تقدير الموقف الداخلي في مصر الآن — ليس تجاهلًا أو انصرافًا، بل لأن المشهد غائم، والقراءة الدقيقة تقتضي معطيات على الأرض لم تعد متاحة أو لم يعد مسموحًا برؤيتها.
اهتمامي بالشؤون الخارجية جعلني أرى الداخل من زاوية أوسع، وربما أكثر وجعًا: انسداد سياسي كامل، نظام لا يؤمن بالسياسة إلا في صورتها التجميلية الشكلية، ومعارضة لا تستحق أن تُوصف بأنها معارضة.
في الداخل والخارج، الأصوات التي تُحسب على المعارضة إما ضعيفة التأثير أو فقدت مشروعها. والمشكلة أن النظام يقيس نفسه بها، فيرى أنه بخير ما دامت لا تهدده، فيغدو الحوار دائرة مغلقة بين فراغين: فراغ سلطةٍ لا تسمع، وفراغ معارضةٍ لا تُقنع.
إن مصر اليوم تعيش ما يمكن وصفه بـ “الفراغ الهلامي”؛ حالة من السكون المشوب بالقلق، تبدو فيها الأمور مستقرة، لكنها في الحقيقة راكدة إلى حدّ العطب.
ولا تنكسر حالة الركود في التاريخ إلا على صخرة الجوع.
ذلك ما حذّر منه كثيرون، وما تنبّأ به الدكتور محمد البرادعي منذ سنوات، حين قال إن التغيير لن يأتي من صناديق الانتخابات بل من هَبّة الجياع. كنت أراه حينها مبالغًا، لكنه كان يرى أبعد منا جميعًا.
لا توجد دولة على وجه الأرض تعيش انسدادًا سياسيًا تامًا وتنجو.
فحتى أكثر الأنظمة استبدادًا تفتح صمامات للتنفيس، إلا في مصر التي جمعت بين الانفتاح على العالم والانغلاق على ذاتها.
كوكتيل نادر لا يوجد له مثيل في الجغرافيا السياسية الحديثة:
دولة منفتحة اقتصاديًا وسياحيًا وإعلاميًا، لكنها مغلقة فكريًا وسياسيًا وإنسانيًا على ذاتها.
أما الدول المنغلقة، ككوريا الشمالية مثلًا، فانسدادها مفهوم، لأنه جزء من نسق حكمٍ يقوم على فكرة الزعيم الإله، أو “نصف الإله”، حيث يقاس الولاء بالعقيدة لا بالمنطق.
لكن في مصر، الأمر مختلف. لا نحن دولة مغلقة بوضوح، ولا نحن منفتحة بصدق. نحن كيان يعيش في منطقة رمادية، يحكمه عقل لا يؤمن بالمشاركة ولا يُجيد العزلة.
ولأن التاريخ لا يرحم الفراغات، فإن ما نراه اليوم ليس تشاؤمًا بل ترجيح للاحتمالات الأقرب:
إذا استمر هذا الانسداد، فلن يبقى أمام الناس إلا الشارع، لا ثورة سياسية، بل ثورة بطنٍ فارغة.
عندها لن تأكل الجموع عَظْم الدبابات، بل سيلتهمون الأسفلت الذي يتباهى به النظام في مشروعاته.
إن الشعوب لا تثور حين تُهان كرامتها فقط، بل حين تجوع ولا تجد معنى للجوع.
وما لم يتغيّر مسار السلطة، ويُفتح المجال العام، وتُستعاد السياسة كأداة حياة لا كديكور، فإن القادم قد يكون أبشع مما نتصوّر.
ليس هذا تشاؤمًا، بل محاولة لفهم المجهول القادم بعين الواقع لا بأمنيات الخيال.
قد ينجو البعض مؤقتًا بالوهم أو بالصمت، لكن لا أحد ينجو من قانون التاريخ:
حين يُمنع الهواء عن الأوطان، يتنفس الناس بالانفجار.
وأتمنى — من قلبي — السلامة والنجاة لهذا الشعب، الذي عانى وما زال، وربما سيبقى يعاني، لأنه ترك كل شيء، وانشغل بما لا يُشبع جوعًا، ولا يبني وطنًا.