رؤي ومقالات

د. فيروز الولي تكتب :من النسب إلى المنصب: رحلة الاسم الذي صار جوازًا للنفوذ

كيف صار لقبٌ واحد يُباع ويُشترى؟
في بلادٍ تُقدّس النسب وتُحبّ الرتبة أكثر من الماء، ظهر «الهاشمي» كعلامةٍ تجارية تحمل ضمانة اجتماعية وسياسية، كأنك تشتري هاتفًا ومعه باقة اتصال تؤهلك للدخول إلى نادي النخبة.
ليس غريبًا أن ترى بعض الناس يلوذون باللقب كما يلوذ آخرون بـ”سِمَانة” قديمة، بل إن بعضهم غيّر بطاقته كما يغيّر قبعته في موسم المطر، مستعيدًا لقبًا من ضمير التاريخ ليحتمي به من مطر الحاضر.
هذه الظاهرة ليست وليدة اللحظة، بل نتاج قرونٍ من تراكمات: اقتصاد المكرمات، وأوقاف النسب، ومقايضة السلطة بالهوية.
الجانب التاريخي والثقافي: نقاء النسب أم تسويق النسب؟
«الهاشمي» في أصله التاريخي انتماء إلى آل النبي، إلى سلالةٍ ذات رمزيةٍ دينيةٍ وسياسية.
على أرض اليمن، كان لهذا الانتماء وزنٌ خاص: حوزةٌ معنوية، أوقافٌ دينية، ومكانة في شبكة التحالفات القبلية. ومع الزمن، صار اللقب أشبه بـ«شارة شرعية» تُستدعى كلما احتاج السياسيّون لغطاءٍ أخلاقيّ أو دينيّ لمشاريعهم.
المصادر التاريخية والصحفية تؤكد أن الطبقة الهاشمية حظيت في مراحل مختلفة بمواقع مؤثرة، وأصبحت حاضرة في البنية الرمزية للدولة والمجتمع، بل وأحيانًا بوصفها المرجعية التي تُبرر توزيع السلطة.
الجانب النفسي والاجتماعي: الخوف من اللاحق واللصاقة الأمنية
في زمن الصراعات وغياب القانون، يصبح الانتماء «درعًا» نفسيًا واجتماعيًا.
اللقب يمنح صاحبه شعورًا بالتميز وأحيانًا حماية من الاشتباه أو التهميش.
من هنا نفهم كيف وُلدت ظاهرة “تبديل الألقاب” أو “استعادة النسب”، لا بناءً على أصلٍ تاريخي بل على فائدةٍ سياسية آنية.
الناس تتصرف برشاقة اجتماعية، يتكيّفون مع النظام الجديد كما تتكيّف الحرباء مع الضوء، فيتحوّل الاسم إلى وسيلة للبقاء أكثر من كونه هويةً أصيلة.
الجانب السياسي والفساد: النسب كبضاعة في سوق المناصب
حين تتداخل السلطة بالنخبوية العائلية، تتحول الدولة إلى مشروع عائلي.
نظام علي عبدالله صالح كان المثال الأوضح: سلطةٌ نسجت شبكاتها على قرابةٍ وقبليةٍ وولاءٍ شخصي، حتى صار المعيار هو «من هو قريبي؟» لا «من هو الأكفأ؟».
ولأن السوق مفتوحٌ على كل شيء، صار اللقب عملةً إضافية في مزاد الوظائف: لقبٌ واحد قد يفتح لك باب القنصلية، أو المنصب، أو حتى الحماية من الملاحقة.
تقارير الفساد في اليمن، من GlobalSecurity وTransparency International، تؤكد أن المحسوبية والنفوذ العائلي كانا العمود الفقري لتوزيع المناصب، وليس الكفاءة أو النزاهة.
الجانب الاقتصادي: امتيازات ملموسة وغير ملموسة
في اليمن، يرتبط الانتماء الهاشمي أحيانًا بشبكات أوقافٍ أو أراضٍ أو مصالح تجارية واجتماعية تورّث موارد دائمة.
امتلاك اللقب أو الادعاء به قد يعني الدخول إلى دوائر النفوذ والصفقات والعقود الحكومية.
وهنا تتقاطع السياسة بالاقتصاد: فصناديق الدعم والمناقصات تُدار في بيئةٍ تُكافئ الولاء أكثر من الأداء، مما يخلق «اقتصاد الألقاب» بدل «اقتصاد الكفاءات».
الجانب الساخر — مسرح الواقع المرّ
المواطن يذهب لتجديد بطاقته:
– الموظف يسأل: «وش لقبك؟»
– يرد: «هاشمي».
– الموظف يبتسم: «طيب… توقّع شوية معاملة خاصة.»
الوزير الجديد يعلن أنه «من الشعب»، ثم يذكر أن زوجته من آل البيت — فيعيد ترتيب الخريطة الدبلوماسية من صالون منزله.
عائلاتٌ تغيّر لقبها قبل الانتخابات، كما يبدّل البعض عناوينهم البريدية؛ تذكرة دخول إلى نادي الامتيازات المقفل.
الضحك هنا مُرّ، لأن وراء كل نكتة إنسانًا فقد فرصته بسبب شبكة اسم، ووراء كل لقبٍ باهِر دولةٌ فقدت بريقها.
لماذا يُعمِّم البعض الكراهية ضد الهاشميين؟
الكراهية ليست ضد «الهاشمية» كفكرة دينية أو نسب، بل ضد ما تحوّل إليه هذا اللقب حين تماهى مع سلطةٍ وامتياز.
من جهة، الذين حُرموا من المناصب يرونه رمزًا للطبقية.
ومن جهةٍ أخرى، من يحملونه يشعرون أنهم حماة الخصوصية الدينية.
النتيجة: احتقانٌ اجتماعي يتحول إلى تعميمٍ أعمى، بدلاً من نقدٍ مؤسسيّ عقلانيّ.
القضية ليست نسبًا أو سلالة، بل بنية سلطةٍ تحتكر باسم الدين ما يجب أن يُوزَّع باسم الوطن.
التوصيات
1. حماية الهوية وتحديث الأحوال المدنية:
وضع قواعد شفافة لتغيير الألقاب بقرارات قضائية ووثائق رسمية، لا عبر “هشميات” ترقص في الظل.
2. فكّ ارتباط المناصب بالنسب:
قوانين نزاهة تُلزم بالكشف عن القرابة في التعيينات، مع لجان مستقلة للتحقيق.
3. نشر ثقافة الكفاءة:
جوائز ومِنح للمؤسسات التي تعتمد معايير موضوعية في التوظيف والترقية.
اجعل كفاءتك أفضل من لقبك.
4. تحصين المجتمع من خطاب الاستعلاء:
مناهج تعليمية تشرح أن النسب لا يشرّع الظلم، وأن الرمزية الدينية لا تساوي امتيازًا ماديًا.
الخاتمة — رسالة إلى من يحمل أو يتمنّى أن يحمل لقبًا
أيّها القارئ، إن كنت تبحث عن «هاشميّة» لتحتمي بها من تقلبات الزمن، فقد اشتريت تذكرةً مؤقتة؛
وإن كنت تطمح لمنصبٍ أو مالٍ باسمٍ لا بعملٍ، فتذكّر أن التاريخ يسجّل الأسماء ويحاسبها.
المجتمع الذي يقدّم اللقب على الكفاءة، يخسر مرتين: ماديًا وأخلاقيًا.
الحل ليس في مطاردة الهاشميين ولا في تقديسهم، بل في بناء مؤسساتٍ قوية تجعل من اللقب سطرًا في البطاقة، لا مفتاحًا للخزانة.
لا تخلطوا بين نسب النبي و«نسب المنصب»؛
الأوّل ضوء من قلب التاريخ،
والثاني ظلٌّ يبيعه موظفو النفوذ في سوق السياسة.
المراجع والمصادر:
1. “هاشميو اليمن لهم 20% من موارد البلاد، فمن هم؟” — الجزيرة نت.
2. “حكم الهاشميين في اليمن… من التنظيم السري إلى تمدد الحوثيين” — رصيف22.
3. تقارير GlobalSecurity وTransparency International حول الفساد والمحسوبية في اليمن.
4. مقالات وتحليلات محلية حول شراء الألقاب والانتماءات التاريخية كوسيلة للحماية أو النفوذ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى