رؤي ومقالات

حسام السيسي يكتب :من هدنة إلى معادلة ردع: قراءة في التحول الجيوسياسي الذي فجّرته غزة

لم يكن المشهد كما أرادوه لنا مجرد هدنة جديدة تُطوى على أنقاض غزة. خلف التصريحات الدبلوماسية، كان ثمة شيء أعظم يحدث في عمق الوعي العربي. العالم يتحدث عن وقف إطلاق نار، أما نحن فنتحدث عن يقظة أمة كانت تترنّح في سباتها الطويل.
اليوم حين يصرّح نائب الرئيس الأمريكي
JD Vance
بأن “حماس وإسرائيل تحترمان وقف إطلاق النار”، بدت العبارة في ظاهرها توصيفًا لحالة ميدانية، لكنها في عمقها تعكس إدراكًا غربيًا متناميًا لتحوّل موازين القوة في المنطقة. فالحديث عن “هدنة” لم يعد يصف واقع الصراع بقدر ما يعبّر عن توازن ردع جديد فرضته المقاومة، وأعاد صياغة المعادلة الإقليمية من جذورها.
لقد كانت المقاومة – منذ حرب غزة السابقة في مايو 2021 البوابة التي دخلت منها الأمة إلى مرحلة جديدة من الوعي الاستراتيجي. كتبتُ آنذاك تقريرًا بعنوان « المقاومة تثبت مبدأ توازن الرعب »، كان واضحًا أن تلك الحرب مثّلت لحظة ميلاد معادلة جديدة: لم تعد إسرائيل الطرف الوحيد القادر على فرض قواعد الاشتباك، بل أصبح على جيشها أن يحسب كلفة كل خطوة، وأن يتعامل مع المقاومة كقوة منظمة ذات قدرات تكتيكية واستراتيجية متنامية.
اليوم، تُثبت الحرب الأخيرة أن معادلة الردع التي بدأت حينها لم تتراجع، بل ترسّخت وتطورت لتصبح جزءًا من التوازن الإقليمي. لقد انتقلت المقاومة من موقع “ردّ الفعل” إلى موقع “الفاعل الاستراتيجي”، القادر على تعطيل مشاريع الهيمنة، وإعادة توجيه مسار القرار في الإقليم.
وفي المقابل، فإن الصحوة العربية التي تواكبت مع هذا التحوّل لم تعد مجرّد تعاطف شعبي، بل تحوّلت إلى حالة وعي سياسي متقد، أعادت تعريف معنى الانتماء والموقف، وكسرت جدار الخوف الذي بناه الاستبداد المحلي لعقود. إنها صحوة تُعيد للعربي شعوره بأن له وزنًا وكرامة في معادلة العالم، وأن المقاومة لم تعد خيارًا هامشيًا بل أداة إعادة تشكيل جيوسياسية.
إنها ليست معركة غزة فقط، بل معركة الوعي. حين تنكسر آلة الاحتلال أمام الإرادة، تُولد الحقيقة الجديدة: أن الكرامة لا تُستعاد بالمفاوضات، بل بالصمود. وأن المقاومة، مهما حاولوا تشويهها، هي وحدها التي أعادت للأمة وزنها الاستراتيجي ومعناها الإنساني
يدرك الغرب كما صرّح
JD Vance
ضمنًا أن ما يجري في غزة ليس “أزمة أمنية” بل تحوّل استراتيجي في بنية الردع الإقليمي. لم يعد بالإمكان احتواء الصراع في حدوده الجغرافية، لأن تأثيره تجاوز الميدان إلى مفاهيم الأمن الإقليمي، ومعادلات التحالف، وميزان القوة في الشرق الأوسط برمّته.
إن ما تحقق لم يكن “نصرًا عسكريًا” بمفهومه التقليدي، بل استعادة للفاعلية العربية في لحظة تاريخية كادت الأمة تفقد فيها قدرتها على الفعل. لقد فرضت المقاومة واقعًا جديدًا على العالم: أن الضعيف حين يملك إرادة الصمود، يصبح عنصر توازن، لا ضحية دائمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى