د. فيروز الولي تكتب :“السفير غير المقيم في البلد غير المقيم”
تحليل في دبلوماسية “التيليجرام” و”الاعتماد عن بُعد”

في اليمن، كل شيء صار “غير مقيم” — الحكومة، البرلمان، السفراء، وحتى الضمير الوطني أقدم استقالته منذ سنوات وغادر دون إذن خروج!
اليوم، استلم وزير الخارجية اليمني الدكتور شائع الزنداني أوراق اعتماد السفير الأسترالي الجديد مايلز روبرت أرميتاج — غير المقيم — في بلدٍ حكومته ذاتها غير مقيمة في عاصمته.
وبين “غير مقيم” و”غير موجود”، تضيع الحدود بين الدبلوماسية والدراما!
دبلوماسية المراسلات… لا المقرّات
منذ أن انتقلت الحكومة اليمنية إلى الرياض وأبوظبي، تحوّل العمل الدبلوماسي من “الميدان” إلى “الواتساب”، ومن اللقاءات الرسمية إلى “التنسيقات عبر الإيميل”.
فالسفير غير المقيم لا يحتاج سفارة، ولا طاقم عمل، ولا حتى معرفة باسم الشارع الذي يقع فيه قصر معاشيق — لأن القصر نفسه صار عنوانًا افتراضيًا.
وعندما يقول الوزير الزنداني للسفير الأسترالي: “سنقدّم لك كل التسهيلات والدعم لإنجاح مهامك”، يحق للشعب أن يسأل:
أي تسهيلات؟ وأين؟
في “عدن” التي لا يستطيع الوزير نفسه الإقامة فيها؟ أم في “الرياض” حيث السفارات أكثر من المدارس اليمنية؟
سفراء عبر الحدود.. ودبلوماسية “الزووم”
أغلب السفراء الأجانب لليمن اليوم غير مقيمين فعليًا في البلاد.
منهم من يقيم في الرياض، ومنهم في عمّان، وآخرون في القاهرة أو أبوظبي.
وذلك بسبب الوضع الأمني المتدهور والانقسام السياسي.
لكن المضحك أن الحكومة الشرعية نفسها تتحدث باسم دولة لم تطأ أرضها منذ سنوات، وكأننا أمام مسرحية عنوانها:
“كلنا غير مقيمين.. وكلنا نمثل اليمن!”
وفي الوقت الذي تعتمد فيه الأمم المتحدة مبدأ “السفير المقيم” كرمز للسيادة والاستقرار، أصبحت اليمن تبتكر نموذجًا جديدًا في القانون الدولي:
“السفير الغائب الحاضر.. والدولة الحاضرة الغائبة”.
المرجع الدبلوماسي يتحدث
وفقًا لاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961، يُفترض أن يكون السفير “مقيمًا في دولة الاعتماد” ليمارس مهامه ويمثل بلده رسميًا أمام الحكومة المضيفة.
لكن في الحالة اليمنية، تم تعديل المفهوم عرفيًا (لا رسميًا!) ليصبح:
“السفير يمثل الدولة أمام حكومة تمثل نفسها من الخارج!”
وحتى وزارة الخارجية اليمنية — في بياناتها الرسمية المنشورة على موقعها الإلكتروني mofa-ye.org — تؤكد دومًا “استعدادها لتقديم التسهيلات والدعم للسفراء غير المقيمين”، في حين أن أغلب التسهيلات تُمنح في الفنادق الخليجية، لا في صنعاء أو عدن.
مفارقة دولية بطعم يمني
في الدول الطبيعية، يُعتمد السفراء غير المقيمين للدول الصغيرة أو البعيدة جغرافيًا — مثل أن يكون السفير في طوكيو معتمدًا أيضًا لدى كوريا الشمالية.
لكن في اليمن، السفير الأسترالي غير المقيم أقرب جغرافيًا من الحكومة الشرعية نفسها!
وهذا إنجاز دبلوماسي من نوعٍ جديد:
البلد التي تستقبل أوراق اعتماد أكثر مما تستقبل سفراء فعليين!
خاتمة: دبلوماسية بلا أرض ولا جذور
ربما آن الأوان لأن تصدر اليمن أول “دليل دبلوماسي افتراضي” بعنوان:
“كيف تمارس السيادة من الخارج؟”
يُدرّس فيه كيفية إدارة العلاقات الدولية من غرف الفنادق، وتبادل أوراق الاعتماد عبر البريد الإلكتروني، واستلام التهاني من دولة “غير مقيمة” في نفسها.
وحتى ذلك الحين، ستظل الحكومة اليمنية تمارس عملها من الخارج، والسفراء يقدمون أوراقهم من الخارج، والشعب يعيش معاناته في الداخل —
بلد لا أحد فيه مقيم… إلا الألم.
مراجع داعمة للمقال:
1. اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961، المواد (2–12).
2. موقع وزارة الخارجية اليمنية – بيانات اعتماد السفراء: mofa-ye.org.
3. تقارير مجموعة الأزمات الدولية والأمم المتحدة حول “الحكومة اليمنية في المنفى” (2023–2025).
4. دراسات المعهد الملكي البريطاني للشؤون الدولية (Chatham House) حول “الدبلوماسية اليمنية من الخارج”.