رؤي ومقالات

د.فيروز الولي تكتب:لجنة استجواب القيادات: جمهورية الكوميديا المتحدة

تخيلوا — فقط تخيّلوا — أن لدينا في اليمن لجنة وطنية عليا لاختيار القيادات، لجنة محترمة ومهيبة (أو هكذا يفترض)، تجلس على طاولة مليئة بالملفات، وأمامها الشاشات، لتستجوب كبار القادة والمسؤولين كما يُستجوب المشتبه بهم في قضايا المال العام والهواء الملوث.
المشهد درامي، لكنه في اليمن يصبح كوميديا وطنية سوداء، لأن الاستجواب في بلادنا ينتهي عادة بإصدار قرار ترقية، لا محاسبة.
تفتح اللجنة جلساتها التاريخية لاستجواب نخبة العجائب:
رشاد العليمي، الثمانية المدهشون، شائع الزنداني، نوابه، وسفراؤهم الدائمون… الذين يقيمون في كل مكان ما عدا اليمن.
المشهد الأول: رشاد العليمي أمام اللجنة
الرئيس رشاد يدخل القاعة بابتسامة “دبلوماسية مريحة”، وفي يده ملف سريّ عنوانه: «مشاريع تحت الدراسة منذ 2012».
يسأله أحد أعضاء اللجنة:
“سيادة الرئيس، ماذا أنجزت منذ تسلمك رئاسة المجلس؟”
فيرد بثقة الطبيب الذي نسي مريضه على الطاولة:
“أنشأنا مجلسًا لإدارة المجلس، ووقّعنا اتفاقًا لتفعيل الاتفاق، ودرسنا خطة تطوير الخطة!”
تسجل اللجنة في المحضر:
“خبير في الدوران حول الفشل دون لمسه مباشرة.”
المشهد الثاني: الثمانية المدهشون
يدخل الثمانية واحدًا تلو الآخر. جميعهم متشابهون كنسخ طبق الأصل من خطاب رسمي.
أحدهم يقول بفخر:
“قمنا بجولات خارجية مكثفة لدعم الشرعية.”
فيرد عليه عضو اللجنة:
“وهل زرتِم مأرب أو تعز؟”
فيرد بابتسامة رسمية:
“لا، لكننا زُرنا فندق الريتز كارلتون، وكان الجو وطنيًا جدًا.”
اللجنة تكتب الملاحظة النهائية:
“نشاط خارجي مزدهر، وإنجاز داخلي معدوم. توصية: نقل مقر الحكومة إلى صالة المغادرة.”
المشهد الثالث: شائع الزنداني والسفراء الدائمون
يدخل شائع الزنداني بثقة من يتعامل مع العالم عبر “واتساب رسمي”، ويقول للجنة:
“وعدت بتسهيل مهام السفراء غير المقيمين.”
تسأله اللجنة بدهشة:
“وكيف يؤدي السفير مهامه وهو لا يقيم في البلد؟”
فيرد بفلسفة تقنية:
“نحن نمارس الدبلوماسية عن بُعد، عبر الزوم الوطني، وفق اتفاقية فيينا المعدّلة رقميًا!”
تكتب اللجنة الملاحظة:
“ابتكار جديد: دبلوماسية الميتافيرس اليمنية.”
أما السفراء الدائمون في الخارج، فقد بدوا وكأنهم يمثلون جمهورية الفندقة اليمنية، لا اليمن.
سألت اللجنة أحدهم:
“منذ متى لم تزر صنعاء أو عدن؟”
قال ضاحكًا:
“منذ أن أصبحت العودة مغامرة غير مشمولة في التأمين الدبلوماسي.”
التحليل السياسي والدستوري
بحسب دستور الجمهورية اليمنية (المادة 105)، يُفترض أن تعمل الحكومة من داخل البلاد لضمان مبدأ المساءلة الشعبية.
لكن ما حدث أن الشرعية انتقلت إلى المنفى، وتحولت السفارات إلى “وزارات متنقلة”، وأصبح السفير المقيم في العواصم الخليجية أقرب إلى مستشار علاقات عامة منه إلى ممثل دولة ذات سيادة.
أما مجلس القيادة الرئاسي، فبحسب القرار الرئاسي رقم (7) لسنة 2022، يفترض أن يمارس صلاحيات تنفيذية جماعية، لكنه في الواقع يمارس صلاحيات جماعية في تقاسم الامتيازات فقط.
القرارات تتخذ وفق مبدأ: “من يسافر أولاً يقرر لاحقًا.”
التحليل الدبلوماسي (وفق اتفاقية فيينا 1961)
تنص اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية (1961) على أن السفير يمثل بلده في مقر الدولة المعتمد لديها، ويجب أن يقيم فيها إقامة فعلية.
لكن في اليمن، الأمر معكوس تمامًا:
السفير غير المقيم هو القاعدة، والمقيم هو الاستثناء الخطر.
العلاقات تُدار من الفنادق، والمذكرات تُرسل عبر تطبيق “الواتساب الدبلوماسي الآمن”.
والقنصليات تحوّلت إلى مقرات استجمام للّقاءات البروتوكولية بدلاً من خدمة الجاليات.
التحليل النفسي والاجتماعي
من الناحية النفسية، القيادات اليمنية تمارس ما يُعرف في علم النفس السياسي بـ “التكيّف مع الفشل المتكرر”، حيث يصبح الإخفاق عادة مريحة تشبه الإدمان، لا تُستبدل إلا بإخفاق أفخم.
أما المجتمع، فتمت برمجته على القبول بالصوت العالي بدلاً من النتيجة، بالشعار بدلاً من الفعل، وبالتحالف مع الأوهام بدلاً من الوقائع.
ثقافيًا، صارت القيادة في اليمن نوعًا من المسرح الشعبي، والجمهور متفرج متعب لا يصفق إلا من باب العادة.
الوزراء ممثلون بدرجة “ممثل مساعد”، والسفراء نجوم ضيوف، والرئيس مخرج العمل… الذي لم ينتهِ تصويره منذ عشر سنوات.

الخاتمة
لو وُجدت فعلًا لجنة استجواب حقيقية للقيادات، لبدأت بسؤال بسيط جدًا:
“أين أنتم من اليمن، وأين اليمن منكم؟”
لكن لأننا في جمهورية الكوميديا المتحدة، فإن اللجنة ستنهي الجلسة بتوصية مألوفة:
“تمت التزكية بالإجماع، مع منحهم بدل تمثيل مضاعف، لأن الضحك على الشعب يحتاج تمويلًا إضافيًا.”
وبهذا يستمر العرض…
كلما فشلت الحكومة، جددت موسمها المسرحي باسم:
“القيادة 2.0 – دراما بلا نهاية.”
الهوامش والمراجع:
1. دستور الجمهورية اليمنية، المواد (105 – 108) الخاصة بمهام رئيس الوزراء وأعضاء الحكومة.
2. القرار الرئاسي رقم (7) لسنة 2022 بشأن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي اليمني وصلاحياته.
3. اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية (1961) – المواد (3، 20، 41) بشأن إقامة الممثل الدبلوماسي في الدولة المعتمد لديها.
4. تقرير مركز الدراسات الدبلوماسية العربية – 2024: “السفارات العربية بين الغياب والتمثيل الرمزي.”
5. تحليل مجلة السياسة الدولية – العدد 230 (2023): “اليمن بين الشرعية الافتراضية والواقع المنكوب.”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى