ضياء… حين تتوه الطفولة وسط المساكن المجهولة

كتب :فادي منصور
في منطقة المواصي جنوب قطاع غزة، حيث تمتدّ الخيام بلا نهاية، يعيش عشرات الآلاف من النازحين الذين فقدوا بيوتهم تحت القصف.
هنا، في متاهةٍ من القماش والأنين، تتشابه المساكن، وتضيع الطرقات كما تضيع الملامح.
في هذا المكان المكتظ بالوجع، ضاعت طفولة صغيرة اسمها ضياء — طفل في الخامسة من عمره خرج ليلعب أمام خيمته، فابتلعته متاهة الخيام لساعاتٍ طويلة، قبل أن تعيده الصدفة إلى حضن أمه.
اللعب الذي تحوّل إلى غياب
كانت ظهيرة دافئة حين كان ضياء يلهو أمام خيمته الصغيرة.
ضحكته كانت تتردّد بين الخيام، ثم اختفت فجأة.
يقول أحد الجيران:
”كان يركض ورا الكرة، وبعد شوي ما شفناه… فكرنا رجع عالخيمة.”
لكن الخيام هنا متلاصقة، والطرقات ضيّقة كأنها أنفاس المكان.
وحين مالت الشمس إلى الغروب، نادت الأم باسمه، فلم يجب أحد.
عندها بدأ الخوف يزحف إلى قلبها، وبدأت رحلة البحث الطويلة وسط مساكن بلا عنوان.
بحث في متاهة من القماش
تقول أم ضياء وهي تستعيد اللحظات الأولى للضياع:
”كنت أسمع ضحكته برّا، وبعد شوي سكت… طلعت أدور عليه، ما لقيته.”
خرجت تسأل كلّ من تراه في الطريق:
”ما شفتوش طفل صغير؟ اسمه ضياء؟”
لكن الوجوه كثيرة، والخيام واحدة.
”مرّيت على نفس الخيمة مرتين، والناس صاروا يقولوا لي: سألتي قبل شوي، كمّلي مشوارك… بس أنا ما كنت قادرة أوقف.”
كانت تمشي وهي تبكي، تتعثّر في الحصى، تبحث في كل زاوية بين الأزقّة الضيقة التي لا تتجاوز المتر.
وفي كل دقيقة تمرّ، كانت تشعر أنّ الوقت يتآكل من قلبها.
المخيم الذي يبتلع الأطفال
يقول أحد المتطوعين الذين شاركوا في البحث:
”اللي ما عاش المواصي ما بيعرف معناها… الخيام فوق بعض، والناس من كل مكان، وصعب تميّز خيمة عن خيمة.”
تحوّل المخيم إلى خلية بشرية تبحث عن طفل واحد.
النساء خرجن من خيامهنّ يحملن مصابيح صغيرة، والأطفال يركضون وينادون:
”ضياء! ضياء!”
لكن الليل كان يهبط، وصار الخوف يغطي المكان أكثر من الغبار.
اللقاء… كوب شاي يعيد الحياة
بعد خمس ساعاتٍ من البحث، وبينما كانت الأم تمشي بخطواتٍ متعبة نحو أطراف المخيم، سمعت صوتًا طفوليًا من داخل إحدى الخيام.
اقتربت، فوجدت ضياء جالسًا على الأرض، يحتسي كوب شايٍ صغيرًا، تحيط به عائلة احتضنته وأطعمته ليهدأ.
تقول الأم وهي تبكي وتضحك في آنٍ واحد:
”ركضت عليه، حضنته وما كنت أعرف أضحك ولا أبكي… كان ماسك كاسة شاي وبيقول لي: ماما، كنت هون.”
نُقل بعدها إلى المستشفى الميداني للاطمئنان على حالته.
لم يُصب بأذى، لكن الخوف ترك أثره في عينيه.
خيام بلا هوية
تضمّ منطقة المواصي عشرات الآلاف من العائلات التي نزحت من شمال غزة ووسطها.
خيام متلاصقة بلا نظام ترقيم، ولا إنارة ليلية، ولا ممرات آمنة للأطفال.
يقول أحد العاملين في الإغاثة:
”ضياع طفل هنا ممكن يصير بخمس دقايق، بس العثور عليه بده معجزة.”
ووفق تقارير اليونيسف (مارس 2024)، يعيش أكثر من 700 ألف طفل نازح في جنوب القطاع،
60% منهم داخل خيامٍ مؤقتة، في ظروف تصفها المنظمة بأنها غير آمنة للأطفال.
حين يعود الضوء إلى الخيمة
في مساء اليوم نفسه، أضاءت أم ضياء مصباحًا صغيرًا عند باب خيمتها.
كان الضوء خافتًا، لكنه بدا كأنه يُنير المخيم كله.
مرّ الناس أمامها وابتسموا، ففي تلك الليلة عاد الأمل إلى الخيام.
لأن الطفولة قد تتوه،
لكنها في غزة — دائمًا تجد طريق العودة







