مقال بعنوان اهمية البحث و القراءة للكاتب بقلم طه دخل الله عبد الرحمن

أهمية القراءة والبحث للكاتب
إنَّ الكاتبَ سفيرُ فكرٍ، وحاملُ رسالةٍ، وبانيُ صروحِ أدبٍ وعلمٍ. ولا غَرْوَ أن تكونَ القراءةُ والبحثُ جناحَيِ الكاتبِ الذي يطيرُ بهما في آفاقِ المعرفةِ، ويبلغُ بهما ذروةَ الإتقانِ والإبداعِ. فالكاتبُ بغيرِ قراءةٍ كالطَّائرِ بغيرِ جناحٍ، وكالبَنَّاءِ بغيرِ طينٍ أو آجُرٍّ.
القراءة: معين الكاتب الذي لا ينضب وأولُ منافعِ القراءةِ للكاتبِ أنها تَمدُّهُ بزادِ اللُّغةِ، وتُثري ملكتَهُ البيانيَّةَ. ففي مطالعةِ دواوينِ الشعرِ، ومصادرِ النَّثرِ البليغِ، تَتَرَسَّخُ في ذهنِه مَعاني المفرداتِ، وتَتَّسِعُ حصيلتُهُ من التَّراكيبِ والأساليبِ. فينطلقُ قلمُه رَصينَ العبارةٍ، فيكون جزلَ الأسلوبِ، بعيداً عن الضَّعفِ والركاكةِ، مُتَّخِذاً من بلاغةِ الأوائلِ سُلَّماً يرقى به إلى آفاقِ الإبداعِ والتَّميُّزِ.
وثانيها أنَّ القراءةَ تُوسِّعُ أُفقَ الكاتبِ، وتُنمِّي فكرَهُ، وتُعرِّفُهُ بخلاصةِ تجارِبِ السَّابقينَ وحكمتِهم. فالكاتبُ قارئاً يَعبرُ الزَّمانَ والمكانَ، ويَختلطُ بعقولِ الحكماءِ، ويَستلهمُ من سِيَرِ العظماءِ. فتتشكَّلُ لديه رؤيةٌ أعمقُ للحياةِ والإنسانِ، فيأتي كلامُه نابعاً من فهمٍ ثاقبٍ، ونظرٍ مستنيرٍ، لا مجردَ نقلٍ لأقوالِ الآخرينَ أو ترديدٍ لها.
وللقراءةِ فائدةٌ ثالثةٌ، هي أنها تُذكي في نفسِ الكاتبِ جذوةَ الإبداعِ، وتُوقِظُ فيه ملكةَ التأملِ والتفكيرِ. فكلُّ كتابٍ يقرؤهُ يفتحُ أمامَه باباً جديداً من أبوابِ المعرفةِ، ويُضيءُ في عقلهِ شمعةً تضيفُ إلى نورِه نوراً. وهكذا تتراكمُ الخبراتُ، وتتناسلُ الأفكارُ، فيجدُ الكاتبُ نفسَهُ وقد امتلكَ زاداً هائلاً من المعارفِ التي تثري كتابتَه، وتجعلُ لها طعماً مميزاً، وروحاً متجددةً.
البحث: هو العمود الفقري للكتابة الرصينة الجادَّةِ. فبه يتأكَّدُ الكاتبُ من صحةِ المعلومةِ، ويَستقصِي جوانبَ الموضوعِ، ويُحيطُ به علماً من جميعِ نواحيه. والبحثُ الجادُّ هو الذي يمنحُ الكتابةَ مصداقيتَها، ويُضفي عليها هالةً من الاحترامِ. فالقارئُ الذَّكيُ يُميِّزُ بسهولةٍ بين الكاتبِ الذي يُقيمُ بنيانَ مقالِه على أسسٍ متينةٍ من الدِّراسةِ والتمحيصِ، وبين مَن يَنسجُ خيوطَ كلامِه من أوهامِ العقلِ أو ظنونِ النَّفسِ وليس البحثُ مقصوراً على العلومِ المحضةِ فحسب، بل هو في الأدبِ ضرورةٌ كذلك. فكاتبُ القصَّةِ يحتاجُ أن يبحثَ في البيئةِ التي يكتبُ عنها، والشاعرُ يَلزمُه أن يَطَّلِعَ على مدارسِ الشِّعرِ واتجاهاتِه، والنَّاقدُ لا بُدَّ له من الغوصِ في نظرياتِ النَّقدِ وأصولِه. وهكذا، فالكتابةُ بدونِ بحثٍ كالبناءِ على غيرِ أساسٍ، يوشكُ أن ينهارَ عند أولِ اختبارٍ.
والبحثُ أنواعٌ، منه البحثُ الوثائقيُّ الذي يعتمدُ على المصادرِ والمراجعِ، والبحثُ الميدانيُّ الذي يخرجُ فيه الكاتبُ إلى أرضِ الواقعِ ليجمعَ مادتَهُ من مصدرِها، والبحثُ النظريُّ الذي يتأمَّلُ الأفكارَ والمفاهيمَ. والكاتبُ الناجحُ هو من يجيدُ الجمعَ بين هذه الأنواعِ، فيبني كتابتَهُ على أساسٍ متينٍ من العلمِ والمعرفةِ.
التلازم العضوي بين القراءة والبحث فإذا كانتِ القراءةُ هي الينبوعُ الذي يَغترفُ منه الكاتبُ، فإنَّ البحثَ هو البوتقةُ التي يُصفِّي فيها ما يقرأُ، ويمحصُه، ثمَّ يَصهرُه في بوتقةِ فكرِه لتخرجَ منه أفكاراً جديدةً، ورؤىً مبتكرةً. فالقراءةُ والبحثُ توأمانِ لا ينفصلانِ، بهما يتحوَّلُ الكاتبُ من ناقلٍ للعلمِ إلى مبدعٍ فيه، ومن شارحٍ للفكرِ إلى مُضيفٍ إليه. وبهذا التلازمِ العضويِّ بين القراءةِ والبحثِ، يصيرُ الكاتبُ بحراً زاخراً بالمعرفةِ، لا يَنْضَبُ معينُه، ولا تفترُ همَّتُه. فيكتبُ فيوصلُ الفكرةَ بأبلغِ أسلوبٍ، ويُقنعُ القارئَ بأوثقِ حجةٍ، ويُؤثرُ في النفوسِ بأعمقِ معنى.
وختاما أقول: يا أيها الكاتبُ الطامحُ إلى الشُّهرةِ، الراغبُ في الخلودِ، لا تغترَّ بموهبتِك وحدَها، ولا تكتفِ بما حباكَ اللهُ به من فطنةٍ وذكاءٍ. فإنَّ الموهبةَ بدونِ معرفةٍ كالشجرةِ بغيرِ ماءٍ، تذبلُ وييبسُ غصنُها، ويسقطُ ورقُها. اجعلِ القراءةَ نُوراً لطريقِك، والبحثَ رفيقَ رحلتِك واعلمْ أنَّ أعظمَ الكتَّابِ كانوا أشدَّ الناسِ حرصاً على القراءةِ والبحثِ. فاقرأْ كما قرؤوا، وابحثْ كما بحثوا، تكنْ منهم، وتُذكَرْ كما ذُكِروا. وليكنْ همُّك أن تضيفَ إلى المكتبةِ العربيةِ ما يثريها، وإلى الفكرِ الإنسانيِّ ما يطورُه ولعلَّ أبلغَ ما يُقالُ في هذا المقامِ: إنَّ القراءةَ والبحثَ هما وقودُ الرُّوحِ الكاتبةِ، فبمقدارِ ما تَقرأُ وتَبحثُ تكونُ كتابتُك قوَّةً وتأثيراً. فاجعلْ لهما في حياتِك نصيباً كبيراً، تكنْ من الكتَّابِ الملهَمينَ، الذين يُحَفِزونَ العقولَ، ويُحرِّكونَ المشاعرَ، ويَتركونَ في دنيا الأدبِ والمعرفةِ أثراً يُذكرُ فيُشكَرُ.
طه دخل الله عبد الرحمن
البعنه == الجليل
17/10/2025







