كتاب وشعراء

الشعر و تشظي الهوية في زمن الحداثة السائلة: من درويش إلى زكريا شيخ أحمد… بقلم محمد وليد يوسف

الشعر و تشظي الهوية في زمن الحداثة السائلة: من درويش إلى زكريا شيخ أحمد

مقدمة:

في عالم يتغيّر بسرعة، حيث لا شيء يبدو ثابتا أو نهائيا، يعيش الإنسان المعاصر قلقا وجوديا مستمرا.
هذا القلق لا يظهر فقط في سلوكه اليومي أو رؤيته للعالم، بل ينعكس بوضوح في الأدب، خصوصًا في الشعر.
ومع صعود ما يسميه عالم الاجتماع زيجمونت باومان بـ”الحداثة السائلة”، أصبح الشعر ساحة مفتوحة لأسئلة الهوية، والانتماء، والمعنى، لا للإجابات القاطعة.
في هذا المقال، نحاول قراءة الشعر الحديث والمعاصر من خلال هذا المنظور، ونتوقف عند أصوات مهمة مثل محمود درويش، صلاح عبد الصبور، نازك الملائكة، و زكريا شيخ أحمد، لنرى كيف يعكس شعرهم حالة الإنسان المتشظي في زمن مضطرب.

الشعر كأثر من آثار السيولة الثقافية

وصف باومان عالمنا المعاصر بأنه “سائل” لأن القيم والمعاني والمفاهيم لم تعد راسخة، بل عُرضة للتحول الدائم.
الشعر بدوره لم يبقَ كما كان. ابتعد عن البناء الكلاسيكي المستقر، وأصبح أداة حساسة للتعبير عن الضياع والقلق وتفتت المعنى.

تجربة الشعراء الغربيين: إليوت وأودن

لم يكن هذا القلق خاصا بالشعر العربي وحده، بل هو ظاهرة إنسانية شاملة.
ففي بدايات القرن العشرين، كتب ت.س. إليوت قصيدته الشهيرة *الأرض الخراب* بوصفها مرثية لعالم فقد مركزه ومعناه، حيث تتناثر الأصوات واللغات كما تتناثر شظايا الهوية:

“تلك الشظايا قد دعمتُ بها أنقاضي.”
في شعر إليوت تتفكك الذات الحديثة بين إرثها الديني والحضاري وبين فراغ الحداثة، فينعكس ذلك في بناء القصيدة نفسها: مقطّع، مفكك، متشظٍ.

أما الشاعر الإنجليزي و.هـ. أودن فقد عبّر عن أزمة الإنسان في عصر الصناعة والحرب، إذ تحوّلت القصيدة عنده إلى مرآة لعزلة الفرد في مجتمع متخم بالتكنولوجيا والقلق. في قصيدته *في ذكرى و.ب. ييتس* يقول:

“الشعر باقٍ حين تموت الدولة.
وهي جملة تختصر ما سيصبح لاحقا جوهر الحداثة السائلة: *أن الشعر آخر ما تبقى من صدق الإنسان حين تتفكك كل البنى الأخرى.

هذا ما نراه في قصيدة الشاعر الكردي السوري زكريا شيخ أحمد:

ما من مرآة أعادت إليّ وجهي،
كل الصور التي عشتُ فيها كانت لمخلوق يشبهني، لكنه ليس أنا.
كنت أبحث عن جملة أولى لقصيدة،
فسقطتُ في منتصف الفراغ.

الهوية هنا ليست يقينا، بل سؤال. والقصيدة ليست بناءً، بل محاولة للبقاء.

درويش: الشاعر الذي فقد “أنا” الجماعة

حتى محمود درويش الذي ارتبط اسمه طويلا بقضايا قومية، تحوّل لاحقا نحو أسئلة الهوية الفردية، و مأزق الانتماء:

أنا من هناك، ولي ذكرياتٌ…
ولكنني لا أعيش هناك، ولا أعيش هنا.

يعيش الشاعر بين “هنا” و”هناك”، بين اسمه واسمه، بين “أنا” و”هم”. تتفتت الهوية، وتصبح القصيدة ملاذا هشا لهذه الذات الممزقة.

نازك الملائكة: غربة الذات في وجه الزمن

في شعر نازك الملائكة نلمح مبكرا ملامح القلق الشعري الحديث:

أصغي إلى نفسي وقد سُمرتْ
بين الحياة وبين موتٍ غائمِ…

لا تقدم القصيدة عزاء أو وضوحا، بل تكشف عن روح تحاول فهم نفسها وسط رماد العالم. هذه هي السيولة في أنقى أشكالها: ذات تقف على تخوم المعنى، لا داخله.

صلاح عبد الصبور: المعنى الذي يخون الذات

أما صلاح عبد الصبور فكتب مسرحا شعريا مأساويا عن ذات تبحث عن خلاصها، ولا تجده:

زهران مات، ولم يمت،
زهران فينا لم يزل حيّا،
لكننا كفرنا به.

تنهار المرجعيات في لحظة الحقيقة، وتفشل الأجوبة. تتبقى القصيدة بوصفها سجلًا للهشاشة، لا للبطولة.

من يرفض هذا الشعر؟

يتعرّض هذا النوع من الشعر لنقد من نوعين:

من التقليديين الذين يرون أن غياب الوزن أو الشكل الكلاسيكي يضعف النص.
ومن المفكرين المحافظين معرفيا الذين يعتبرون التشظي والقلق علامات على العدمية أو اضطراب في التفكير.

ويمكن أن نلمح جذور هذا الموقف في النقد العربي الكلاسيكي الحديث، لدى عباس محمود العقاد الذي كان يرى في الشعر تعبيرًا عن الفكر في صورته الموزونة، أي أنه لا يتقبّل القصيدة المفتوحة التي تتنازل عن البناء المنطقي أو الوزن بوصفها خروجا على جوهر الشعر.
كما أن إحسان عباس، رغم انفتاحه النقدي، كان يميل إلى اعتبار الغموض والتفكك في القصيدة الحديثة علامة على ضعف في الرؤية الشعرية لا على عمق وجودي.
هذا الموقف المحافظ يعبّر في جوهره عن حنينٍ إلى زمن كانت فيه اللغة قادرة على الإمساك بالمعنى، قبل أن تتبدد الثقة بين الكلمة والعالم.

لكنهم غالبا يغفلون أن هذا الشعر لا يرفض المعنى، بل يفككه ويعيد مساءلته لا يهرب من الواقع، بل يكشف عن وجهه الحقيقي: المتحول، المرتبك، اللايقيني.

الشعر بوصفه إنصاتا في العتمة

الشعر في زمن الحداثة السائلة لم يعد ديوانا للحكمة أو تفسيرا للعالم، بل همس في عتمة الوجود ، محاولة لصياغة الذات عبر التجربة، لا عبر التعريف.

إنه شعر لا يدّعي النبوة، ولا يكتب ليُعلّم، بل ليقول ببساطة:
أنا لا أكتب كما يفعلون،
أنا فقط أضع أذني على قلب العالم
و أنتظر ارتجافة تشبهني.

وهذا، في زمن السيولة، أقرب ما يكون إلى الصدق.

نص الشاعر زكريا شيخ أحمد :

هو الذي يشبهني

ما من مرآةً أعادت إليّ وجهي
كل الصور التي عشتُ فيها كانت لمخلوق يشبهني ،لكنه ليس أنا .
يصغي مثلي، يبتسم بحذرٍ مثلي ،
لكنه حين يتحدث
ينبعث من فمه صوت لا أعرفه .
كل من صافحني ظن أنه عرفني
و كأن اسمي يكفي ليكون وجهي
و كأن وجهي يكفي ليكون أنا .
كنت أبحث عن جملة أولى لقصيدة
فسقطتُ في منتصف الفراغ .
لم أكتب شيئا ، ربما كتبتُ صمتي .
و ربما كتبتني القصيدة دون أن أدري .
كثيرا ما أغير وجهي في منتصف الجملة
كأن المعنى يخونني أو كأن الحبر لا يثق بي .
قالوا: ما هذا؟ هذا ليس شعرا .
لم أجادل…
لأنني لا أكتب الشعر كما يفعلون
أنا فقط أضع أذني على قلب العالم
و أنتظر ارتجافة تشبهني .
كنت أكتب رسالة ، لكنها خرجت من يدي
كطيور الليل … لا تصل و لا تعود.
و ما تبقى منها الآن
هو هذا الذي تقرأه…
و تمضي .
من صفحة قراءات أدبية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى