كتاب وشعراء

الكتابة الإبداعية والحاجة إلى العزلة ليندا نصار

هل يمكن اعتبار العزلة فضاء موحشًا؟ ما هي نظرة الأدباء المبدعين إلى العزلة؟ أليست العزلة الوعاء السري الذي تتفتح فيه بذور الإبداع؟
لا يمكن للكاتب أن ينخرط في عمليته الكتابية الخاصة من دون أن يتخذ المسافة بينه وبي الآخر، بينه وبين الأشياء اليومية التي تحيط به. يولد الإبداع وسط الزحام أمر صحيح، ولكن مزاجًا خاصًّا يسير بالمبدع إلى ما قد نسميه الغرفة المغلقة أو الغرفة السرية التي كانت موضوع للعديد من الروايات والتي شكلت نقطة مهمة في علم النفس. إنها رحلة ذاتية يكتشف فيها المبدع أشياء في نفسه لم يعرفها من قبل. كما أن العزلة تمثل للبعض رحلة التشافي عبر الإبداع لأنها تبعث على السكون وإنهاء الصراع الذي يتأتى من غياب الإجابات على حالات شعورية نبتت وتجذرت في النفس الطفولية وكبرت مع مرور العمر. على أن الإبداع ينطلق من الحياة، يبتعد عنها ليرجع إليها. هكذا يسير الكاتب وسط خط تصاعدي يرتفع فيه الإبداع ليبلغ عالمًا مقدسًا وهو عالم الإبداع الخالص.
يعيش المبدع في عوالم يبتكرها لنفسه، حيث يصوّر حيوات ممكنة على شكل قصائد. وقد تكون العزلة خيارًا إنسانيًا يلجأ إليه، إذ تفرضه حالته الانطوائية، التي تتزايد كلما أراد العودة إلى نفسه وترتيب داخله، ليخرج بعدها من جديد إلى عالم تتشكل منه دائرته الخاصة.
العزلة بطبيعتها ملحة؛ فهي تجتذب المبدع ليكتب ويعبّر بالفن عما يقلقه، وتطمئنه عما يحزنه، وتشارك في فرحه، كما تمكّنه من تقمص حالات شعورية للآخر.
قد لا تكون العزلة كما يصورها البعض على شكل مسافة بين الذات والآخر، أو كما وصفها جان بول سارتر على أنها الجحيم الذي يمثله الآخر، بل يمكن اعتبارها إقامة في المسافات الشعرية التي تنهي الشعور بالرفض. فالعزلة بمفهومها الرمزي، لا الاجتماعي، تتحول إلى عالم يبلغه الكاتب، ويطوّر فيه مادته الخام، ويصهر حبره، لتصبح نصوصه نابضة بالحياة.
يميل البعض إلى العزلة انطلاقًا من حالة نفسية أو شعور بالاختناق، والأمثلة كثيرة على ذلك منها كما فعل الشاعر البرتغالي الشهير فرناندو بيسوا. بيسوا الذي حرّر نفسه حتى من اسمه الأصليّ واتّخذ لنفسه أسماء تليق بشخصيات تقيم في المسافة الفاصلة بين الواقع والعالم المتخيل، مع ذلك ظل شعور الوحدة والحزن يرافقه وقد تجلى ذلك ي معظم محطات كتاباته. كان بيسوا غريبًا عن نفسه وعن العالم وقد كانت العزلة تصاحبه في أوقات طويلة يقضيها في رحلات عمله كمهندس على متن السفن خلال الحرب. كما كان يشعر بالانزعاج من الأرصفة المزدحمة ومن الناس الذين لا يتركون مسافة بينهم وبينه. ومن هنا يبرز السؤال: ماذا تعني العزلة للشعراء؟
ارتبط شعور العزلة بالكتابة والإبداع، ففرانز كافكا كان يعيش عزلته التي تجلت على شكل تأمّل لصياغة عالم تتجسد فيه أفكاره ومشاعره وانفعالاته ومخاوفه وكل ما قد يسبب له الإحباط أو ما من شأنه أن يتسبب بأزمة له. هذه الحالة من الانعزال صارت ميدانًا للشعراء والمبدعين ليعيدوا تشكيل العالم وفهمه بعد فهم الذات وتكوينها بتقنيّات تدفع بالقلق إلى العالم الخارجي.
كان دوستوفيسكي يعاني من العزلة التي تكوّنت من شعور داخليّ جعله يفكر بفراغ العالم من حوله على الرغم من ازدحامه. وقد تكون العزلة منطقة تفكّر ذهني ومساحة آمنة تدعو إلى التأمل بصمت ورهبة بل هي استرجاع الأحداث وهي نوع من الدعم النفسي الذي يعيد للشاعر فضاء الإبداع المفقود بفعل ضجيج العالم.
هكذا تمكن الشعراء من التوفيق بين العزلة والإبداع وأحاطوا أنفسهم بحياة نابضة تجسدت في نصوصهم.
ترتبط العزلة بالمنفى الذي يعيشه الأدباء بحيث تتخذ معنى يرتبط بغربة الأديب بفعل الإقصاء والتهميش، إنها عزلة وجودية تدفعه إلى القبول بالقسوة وإلى عيش مأساة حقيقية تتبدى من خلال انتفاء القدرة على تحقيق الحياة والعيش ضمن أقل ما يمكن أن يشكل حقوق الإنسان. وقد أدت الحروب المتزايدة إلى التهجير وولدت العزلة بفعل الواقع الاجتماعي الجديد الذي تم فرضه على العالم.

التشافي بعد الانكسارات وفقدان المعنى للتحول إلى معنى الاحتماء الذاتي والابتعاد عن التفاعل اليوميي مع أبسط الأشياء إلى جوهرها في العزلة القبض على معنى الوجود للعودة إلى الذات ومصالحتها فيستعيد الإنسان قيمته ويمكث في مكان لا يخطئ فيه بحق نفسه إنه الطريق الأمثل لتقويض كل ما قدد يتسبب بالانشطار عن النفس.
أخيرًا قد تكون العزلة السبيل الوحيد الذي يساعد المبدع على رسم الواقع من جديد يبقي فيه الحدود الفاصلة واضحة بين الذات والعالم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى