“روازن غرفة مصبّح”.. مسرحية تستعيد الذاكرة العُمانية وتتناول أسئلة الوجود والهوية

تندرج مسرحية “روازن غرفة مصبّح” للكاتب العُماني عبدالرزاق الربيعي، والصادرة حديثاً عن “الآن ناشرون وموزعون” في الأردن، ضمن الأدب المسرحي العربي الحديث، كاشفة في تقنياتها وأساليبها عن قدرة في توظيف السرد الروائي داخل البنية المسرحية في إطار بصري مشحون بالرموز والأسئلة الوجودية والاجتماعية.
وتبدأ المسرحية المقتبسة بتصرف عن رواية “صابرة وأصيلة” للكاتبة غالية ف.ت.آل سعيد، بمشهد حواري يجمع بين الحفيد “مصبّح” والحارس أمام متحف “المكان والناس” في عُمان، حيث يتسلل الحفيد إلى “غرفة جده مصبّح” التي تحوّلت إلى ركن تراثي في المتحف، ليبدأ عبر هذه الزيارة رحلة استعادة للذاكرة والهوية يتقاطع فيها الماضي بالحاضر، والواقع بالخيال، في مشهدية تجمع بين الوثيقة والاعتراف والبحث الأكاديمي.
وقد بنيت المسرحية ضمن تقنية مسرح داخل مسرح، حيث يتحول الحفيد إلى باحث في علم الاجتماع ويقدّم أطروحته حول “جرائم الشرف بين المجتمعين الشرقي والغربي”، دليله في ذلك قصة جده والغرفة التي شهدت مأساة إنسانية تراجيدية تتعلق بهذا الموضوع.
تبرز شخصية الجدّ “مصبّح” بوصفها نموذج للإنسان الكادح الذي يصعد من قاع المجتمع إلى مرتبة الاحترام من خلال العمل والإخلاص، إذ يبدأ الجدّ حياته، كما يقدمه الكاتب الربيعي، حمّالًا في الميناء ثم بائعاً متجولا قبل أن يعمل حارس لإحدى المدارس، وهناك تتفتح أمامه نوافذ جديدة نحو التعلم والحياة، لتتحوّل غرفته البسيطة إلى رمز للكفاح الذي يهدف إلى تطوير الذات بعزة وكرامة،
غير أن هذه الغرفة تغدو لاحقاً مسرحاً لجريمة مأساوية، حين تتحول إلى مكان خفيّ يجتمع فيه المدرس “شهم” بالطالبة “صابرة”، على وقع قصة حبّ حكم عليها بالفشل بسبب الفوارق الطبقية التي تتحكم بها العادات والتقاليد في المجتمع.
يتوغّل النص في تفاصيل قصة الحب التي جمعت بين المدرس والطالبة، لتتحول من لقاءات عابرة إلى قضية قتل، وهنا يجمع الربيعي بين الواقعية الاجتماعية والتحليل النفسي، بهدف الكشف عن مأزق المرأة العربية التي تقع بين مطرقة التقاليد وسندان الحب، وعن المفارقة القاسية في أن “غرفة مصبّح” التي مثلت رمز الأمان والبراءة فيما مضى تتحول مع هذه الحادثة إلى رمز للعار والقتل باسم الشرف.
ويبرز الربيعي شخصية “صابرة” كصوت يعبر عن قمع الأنثى في المجتمع الذكوري، في حين يعبّر “شهم” عن وجه آخر من وجوه الإنسان الممزّق بين النضال الوطني والرغبة الشخصية،
وتتكامل المأساة مع أصوات الشخصيات الثانوية ومنها: الحارس، والمدرسون، والأصدقاء.. لتشكّل نسيجاً درامياً يجمع بين الحوار المتصاعد والوثائقية البصرية من خلال استخدام مشاهد الظل، والأغاني الشعبية، والمقاطع الشعرية القديمة التي تتقاطع فيها الثقافات العربية من المشرق إلى المغرب.
وعلى صعيد التقنيات فقد وظّف الكاتب الربيعي تقنيات المسرح الحديث، من مثل تعدد الأصوات، وكسر الجدار الرابع، إذ يخاطب “مصبّح الحفيد” الجمهور مباشرة، ويعيد تأويل الأحداث والنهايات الممكنة في أكثر من سيناريو، فيدعو المشاهد للتفكير في بدائل أقلّ قسوة من تلك التي انتهت إليها حياة “صابرة”. وحققت هذه التقنية دورا في منح المسرحية أبعاداً فكرية عميقة، وحولتها إلى ما يشبه “الدراما البحثية” التي تهدف إلى طرح الأسئلة أكثر من تقديم إجابات شافية.
كما أن تنقّل الأحداث بين الأزمنة (زمن الجدّ وزمن الحفيد) والمواقع (المتحف، المدرسة، البيت، السجن) يخلق حركة ديناميكية تكشف عن قدرة الكاتب على المزاوجة بين السرد السينمائي واللغة الشعرية، مع الاستعانة بتقنيات خيال الظل والإضاءة وغيرها من عناصر تسهم في منح المسرحية عمقاً بصرياً وتأثيراً وجدانياً على المتلقي.
ولعل العنوان الذي حملته مسرحية الربيعي “رَوازنُ غرفةِ مصبّح” ينفتح على العديد من التأويلات الرمزية؛ فالروازن هي النوافذ الصغيرة في البيوت العمانية القديمة، والنوافذ بطبيعة الحال ترمز إلى الانفتاح الفضائي ما بين الداخل والخارج، وما بين الماضي والحاضر، أما “الغرفة” فهي مساحة الذاكرة، ومختبر الأسرار الذي تتجلّى فيه تناقضات الإنسان بين الطهارة والخطيئة، وبين الحب والعار،
ومن خلال هذه الرمزية يوّلد الربيعي نصاً يقوم على بعد تأملي فلسفي يتحرك بين قطبي الستر والانكشاف ومعانيهما، ويعيد طرح السؤال الأزلي؛ من منا يملك الحقيقة التي تخوله الحكم على حياة الآخرين؟
وقد ظهرت لغة الربيعي الشاعر في المسرحية التي انسابت جملها وتعمقت الاقتباسات الأدبية فيها من غير أن تفقد طابعها التأملي العميق، لتحتفي بالإنسانية، وتنتصر لقيم الحرية والمعرفة في وجه القهر والتقاليد البائدة،
وتؤكد على أهمية البحث عن الذات، وضرورة إعادة قراءة التاريخ العائلي والاجتماعي بعين جديدة، حيث يمكن للرواية أن تتحول إلى مسرح، وللمتحف أن يتحول إلى مرآة للوعي، وللغرفة الصغيرة أن تفتح روازنها على العالم بأسره.
سيعرض النص على الخشبة مساء يوم الإثنين الموافق 15 نوفمبر 2025 في قاعة الجمعية العمانية للسينما وهو من إخراج الفنان سعيد عامر وأداء: يوسف البلوشي ونور الهدى الغماري.







