كتاب وشعراء

هَارُونُ الرَّشِيدُ…بقلم حيدر البرهان

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

بَصِيرَةُ الْجَبْرُوتِ وَإِشَارَاتُ الْغَيْبِ

لَمْ يَكُنْ أَحْمَقَ، وَلا جَاهِلاً بِفَلْسَفَةِ الْمُلْكِ وَسِرِّ السُّلْطَانِ،
عِنْدَمَا قَرَّرَ سِجْنَ مُوسَى ابْنِ جَعْفَرٍ
فِي زَنْزَانَةٍ جُرْدَاءَ، مُظْلِمَةٍ تَتَنَفَّسُ ظُلْمَةَ الْخَوْفِ…
لَقَدْ أَرَادَ أَنْ يُطْبِقَ عَلَى النُّورِ بِكَفِّهِ الْخَاشِنَةِ،
فَظَنَّ أَنَّ الْحَقَّ قَيْدٌ مِنْ حَدِيدٍ،
وَأَنَّ الرُّوحَ إِذَا حُبِسَتْ فِي سِرَادِيبِ الْأَرْضِ تَمُوتُ.
لَكِنَّهُ لَمْ يَدْرِ أَنَّ لِلْأَنْوَارِ مَسَارَاً آخَرَ،
مَسَاراً صُوفِيَّاً يَخْتَرِقُ الْحُجُبَ،
وَيَنْسَلُّ مِنْ أَقْفَالِ السُّجُونِ كَالْعِطْرِ.

حَسْناً، سَتَنْكِرُ الْقُلُوبُ الْجَافِيَّةُ
مَا أَكْتُبُهُ،
فَالْعُيُونُ الَّتِي لَا تَرَى بَإِشَارَاتِ الْقَلْبِ
لَنْ تَفْقَهَ تَارِيخَ حُكَّامِهَا الْقَتَلَةْ…
مُخْتَلَّةٌ عُقُولُهُمْ بِلَوْثَةِ الْعَظَمَةِ!
سَلاطِينٌ مُفَحَّمَةٌ قُلُوبُهُمْ،
سَوْدَاءُ قَاتِمَةٌ كَلَيْلِ الْجَبَابِرَةِ.

مِنْ أَيْنَ يَأْتِي الْحَمَامُ عَلَى الضَّرِيحِ يَا تُرَى؟
أَتَرَاهُ يُحَمِّلُ أَجْنِحَتَهُ الْبَيَضَاءَ رِسَالَاتِ الْغَيْبِ،
أَمْ أَنَّهُ قُبَلَاتُ الْأَنْبِيَاءِ فِي مَلَأٍَ أَعْلَى؟

ارْتَعَدَّتْ أَصَابِعُ الْخَلِيفَةِ حِينَ رَأَى النَّاسَ مُجْتَمِعَةً،
تَمْشِي وَرَاءَ رَجُلٍ زَاهِدٍ وَحَكِيمٍ،
قَدِ اخْتطَفَ الْعَرْشَ بِنُورِهِ الْمُطْلَقِ،
وَشَغَفِ شَعْبِهِ الْجَرِيحِ.
لَقَدْ أَدَارَ ظَهْرَهُ لِفَلْسَفَةِ السَّيْفِ،
وَاسْتَقْبَلَ حِكْمَةَ الْقَلْبِ.

ثُمَّ مَاتَ شَيْخُنَا فِي سِجْنِهِ،
كَرِيماً، عَفِيفاً، سَاجِياً فِي نَعِيمِ الْيَقِينِ.
فَالْمَوْتُ عِنْدَ أُولِي الْبَصَائِرِ لَيْسَ نِهَايَةً،
بَلْ هُوَ اسْتِئْنَافٌ لِحَدِيثِ الرُّوحِ مَعَ مُنْزِلِ الْأَسْرَارِ.

وَظَلَّتْ حُشُودُ الشَّهِيدِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا،
تَمْشِي إِلَيْهِ أَفْوَاجاً مِنْ كُلِّ دَرْبٍ وَعِشْقٍ عَمِيقٍ.
يَمْشُونَ عَلَى مِقْيَاسِ الْقُلُوبِ، لَا عَلَى خَرِيطَةِ الْأَرَضِينَ.
فَالْوَصْلُ لَيْسَ مَسَافَةً، بَلْ هُوَ اسْتِعَادَةُ نَفَسٍ بَيْنَ الْعَبْدِ وَمَعْنَاهُ.

أَمَّا قَاتِلُهُ فَلَمْ يَعُدْ لَهُ أَثَراً وَلَا قَبْراً شَهِيداً.
فَالْجَبَّارُونَ لَا يُورِثُونَ إِلَّا الْغُبَارَ.
إِنَّهَا حِكْمَةُ الْخَالِقِ الْوَحِيدِ:
أَنَّ الْحَقَّ يَبْقَى،
وَأَنَّ الْبَاطِلَ يَذْرُوهُ رِيحُ الْمُنْتَهَى.
وَأَنْتَ… أَنْتَ السَّعِيدُ،
إِذَا أَنْصَتَ الْقَلْبُ إِلَى صَوْتِ الْحَقِّ الْخَفِيِّ.

وَظَلَّ الرَّشِيدُ يُعَانِي مِنْ لَوْثَةِ عَقْلٍ خَبِيثَةٍ،
مِنْ جُرْثُومَةِ دَمٍ عَنِيدَةٍ تَأْبَى الْغُسُولَ…
هُنَاكَ، فِي قَلْعَةِ الْغُرُورِ،
نَامَ نَوْمَ الْجَبَابِرَةِ: سَقِيماً، قَلِقاً، مُثَقَّلاً بِأَصْوَاتِ الْأَجْدَادِ.
قَاتِلُ الزُّهَّادِ وَالْأَجْدَادِ،
حَيْثُ لَا رَفَقَاءَ إِلَّا أَشْبَاحُ الْمَاضِي،
وَلَا جُنْدَ إِلَّا وَهْمُ السُّلْطَةِ.

ثُمَّ مَاتَ ذَلِيلاً حَقِيراً فِي بِلَادِ خُرَاسَانَ،
تَطَارِدُهُ لَعْنَاتُ قَوْمِهِ،
وَتَلْعَنُهُ أَنْفَاسُ الْأَبْرَارِ.
هَذَا هُوَ الرَّشِيدُ الْخَبِيثُ الْحَقُودْ،
نَمُوذَجُ الْجَبْرُوتِ الَّذِي يَنْهَارُ عَلَى أَعْتَابِ الْحَقِّ.
صاحِبُ مَواخِير الجَواري.

فَفِي مِيزَانِ التَّصَوُّفِ: كُلُّ سُلْطَةٍ تُقَاوِمُ النُّورَ هِيَ سُلْطَةٌ مُؤَقَّتَةٌ.
وَفِي فَلْسَفَةِ الْحُكْمِ: كُلُّ عَرْشٍ يُقَامُ عَلَى الْجَوْرِ هُوَ عَرْشٌ مِنْ رَمْلٍ.
وَفِي شِعْرِيَّةِ الْبَصَرِ: لَا يُدْرَكُ النُّورُ إِلَّا بِعَيْنِ الْقَلْبِ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock