تسونامي الفساد الثقافي….بقلم حسن غريب

لم يعد الإبداع في مصر يُقيّم بشهادة الجودة الفنية، بل بـ “بطاقة المحسوبية”. المشهد الثقافي يعيش مأساة تهميش المبدعين الكبار والمتميزين، لا لصالح منافسين أكفاء، بل لصالح جيش من “أنصاف المبدعين” وادعياء الأدب. الأزمة لم تعد في ضعف الإمكانيات، بل في منظومة متكاملة من الفساد المؤسسي الذي شمل العلاقات، والمصالح المتبادلة، والرشاوي بكل ألوانها، وصلة القرابة، والتربيطات، وحوّل الثقافة إلى غنيمة يتقاسمها موظفون فاسدون.
أولاً: فساد الموظفين.. “بوابة العبور” غير الشرعية
جوهر الخلل يكمن في فساد الموظفين داخل مؤسسات الدولة الثقافية، الذين حوّلوا مناصبهم الإدارية إلى “بوابة عبور غير شرعية” تضمن لهم ولذويهم الظهور والامتيازات:
الاستغلال الوظيفي والقرابة: يُستغل المنصب الإداري لضمان طباعة أعمال ضعيفة في السلاسل الحكومية، والقفز إلى واجهة المشهد للمشاركة في الندوات والمؤتمرات والأمسيات والمعارض، تحت غطاء “موظف في وزارة الثقافة”، وهو حق أصيل للمبدع الحقيقي. وغالباً ما تمتد هذه الامتيازات لتشمل الأقارب والأصهار.
التربيطات والرشاوي: أصبح النشر والمشاركة في الفعاليات الكبرى أمراً خاضعاً لـ التربيطات بين الموظفين وأصحاب النفوذ، أو سداد رشاوى بكل ألوانها لضمان القبول والتفضيل، في إقصاء صريح للمبدع الشريف الذي يرفض هذا المستنقع الآسن.
لصوص الحرف والكلمة: هذا الفساد يُفسح المجال أمام لصوص الحرف والكلمة الذين يجدون الدعم والغض عن تجاوزاتهم، بينما تظل المخطوطات الأصيلة ذات القيمة الفكرية حبيسة الأدراج.
ثانياً: الجوائز.. ساحة المزاجية وتصفية الحسابات
الجوائز الأدبية والثقافية الكبرى، التي يفترض أن تكون قمة التقدير، تحولت إلى ساحة لتجسيد أسوأ مظاهر التحيز والمزاجية:
سيطرة الأهواء والمصالح المتبادلة: المعيار لم يعد الإبداع، بل الولاء للتيار المسيطر والمصالح المتبادلة داخل لجان التحكيم. تتحول الجائزة إلى “مكافأة” تُمنح لمن يملك نفوذاً إدارياً أو شارك في شبكة التربيطات، حيث تُصفى الحسابات الشخصية والأيديولوجية القديمة تحت ستار “التحكيم الفني”.
نزع المصداقية: هذا التدخل المستمر للأمزجة والعلاقات يقتل مصداقية الجوائز ويفقدها قيمتها المعنوية لدى المبدع الحقيقي والجمهور على حد سواء.
ثالثاً: الصمت الرسمي.. تواطؤ يقتل الثقافة
النقطة الأكثر خطورة هي أن هذا الفساد لا يحدث في الخفاء. هناك علم كبار المسؤولين في المؤسسات الثقافية بما يدور من فساد الموظفين، ومع ذلك يختارون السكوت والتواطؤ عليه.
ترسيخ للوضع القائم: هذا الصمت يُفسَّر على أنه قبول ضمني، بل وتوظيف لهذا الفساد لضمان السيطرة الإدارية على المشهد الثقافي وتطهيره من الأصوات الحرة والمستقلة التي قد تنتقد المنظومة.
نتائج وخيمة: التغاضي عن الفساد يؤدي إلى تدمير الثقة في المؤسسات الثقافية، ويدفع بالمبدعين الحقيقيين إما إلى العزلة التامة أو إلى الاغتراب، مما يحرم الثقافة المصرية من أقلامها الأكثر تأثيراً وعمقاً.
خاتمة: متى تنتهي خيانة القيمة؟
إن استمرار الفساد والسكوت عليه هو خيانة كبرى للقيمة الإبداعية وتاريخنا الثقافي العريق. إنقاذ الثقافة يتطلب إرادة حقيقية وشجاعة لتطهير هذه المؤسسات من الداخل، وفتح الباب للمراجعة والشفافية. يجب أن تعود الكلمة للقلم، وأن يصبح المعيار الوحيد هو الجودة الإبداعية والنزاهة الفكرية، لا علاقات القرابة أو حجم الرشوة المدفوعة.







