كتاب وشعراء

فصلٌ آخرُ للغياب _ بقلم الكاتبة/ سمية جمعة

فصل آخر للغياب قصة قصيرة بقلم/ سمية جمعة، ورؤية نقدية

فصلٌ آخرُ للغياب

ليلٌ جديدٌ يتقدَّمُ نَحوي بخُطًى وئيدةٍ، كمن يعرفُ الطريقَ إلى مواجعي.
يَفتحُ جُيوبَ ذاكرتي واحدًا تِلوَ الآخر، كما لو أنَّه قرَّر أن يَقتحمَ ما تركتُه مطويًّا بين رفوفِ النسيان، دون إذنٍ أو استئذان.

الكتبُ على الرُّفوفِ تتململُ، تتحرَّكُ بخَجلٍ، تشتاقُ أن تُلامسَها أصابعي بشغفٍ قديمٍ، ذلك الشغفُ الذي كان يُضيءُ لياليَّ قبل أن تنطفئَ شموعُ العُمر.
ورقُها يتنفَّسُ عطري، والصَّفحاتُ ترتجفُ من الحنين.

من بعيدٍ، يأتيني صوتُ نزارٍ هامسًا: «بلقيس…»
فألتفِتُ كمن أُخِذَ على حينِ غِرَّةٍ، فيُراودُني طيفُ نجيبٍ محفوظٍ بوجهِه الوادعِ وثُلاثيَّتِه التي حفرتْ في وجداني متاهاتِ القاهرةِ القديمة،
ثمَّ يَطلُّ عليَّ شكسبيرُ من بين الظِّلال، يُراقبُني بعبارتِه التي لا تموت: «أن تكونَ أو لا تكونْ».

يا لِهذا اللَّيل! لم يتركْ جيبًا إلَّا وفتحَه، ولا بابًا إلَّا وطرقَه.
كأنَّه مُصرٌّ على أن يُشاركني شغفي، وأن يُوقظَ ما ظننتُ أنَّني طمرتُه في قاعِ القلبِ منذ زمنٍ بعيد.

السَّتائرُ تلوِّحُ، والقمرُ يتسلَّلُ من بين خُيوطِها كعاشقٍ مُتخفٍّ، يَسحبُ شيئًا من حِبرِ الكتابةِ ويُرافِقُني نحوَ طاولةِ البَوح.
يَهمِسُ لي أن أبدأ.

لكنْ كيف أبدأ؟
وأنا المُتشَرِّدةُ في فيافي التِّيه، أتنقَّلُ بين قلوبٍ أنهكَها السَّفر، وأحلامٍ أرهقَها الانتظار.
روحي صارت كسفينةٍ بلا مَرسى، تتقاذفُها أمواجُ الأيَّام.

تعلو فيَّ أُغنيةٌ قديمةٌ، أعرفُها منذ الأبد.
كانت تُرافِقُ طُفولتي، حين كنتُ أرسُمُ بالطباشيرِ دوائرَ على أرصِفةِ الحيّ، أَقفِزُ داخلَها بخِفَّةِ الفَراشات، وأضحكُ بصوتٍ يملأُ الحيّ.
كنتُ أعتقِدُ أنَّ العالَمَ لي وحدي، وأنَّ الشَّمسَ لا تشرُقُ إلَّا لتُرافِقَ قفزاتي.

الرِّيحُ كانت تأخُذُ أُغنيتي بعيدًا، نحو الذين رحلوا، نحو مَن تركوا في القلبِ فراغًا لا يُملأ.

أنظُرُ إلى النّافذة؛ ما زالت هناك آثارُ خُطوطٍ رسمتُها يومًا ما، حين ظننتُ أنَّ الرسمَ يُخلِّدُ اللحظات.
هُنا أوَّلُ حرفٍ خطَطتُهُ بارْتباكٍ جميل، وهناك يدُ أُمِّي تُمسِكُ بيدي الصَّغيرةِ لتُوازِنَ الحروفَ على الدَّفتر، تهمسُ لي:
«هكذا، يا صغيرتي، الكتابةُ تُشبهُ القلبَ، لا تُجبَرُ، بل تُروى.»

أتذكَّرُ عامرًا، أخي المُشاغب، كيف كان يسرقُ لُعبتي ويعدو في فناءِ البيتِ ضاحكًا، فأجلِسُ أبكي وأشدُّ شعري لأستعيدَها.
كم كانتِ التفاصيلُ بسيطةً، لكنَّها الآن تلمعُ في الذاكرةِ كجواهرَ فقَدَتْ بريقَها مع الزَّمن.

الهواجسُ تسحبُني إلى شارعٍ قديمٍ تُظلِّلُهُ أشجارُ التُّوت.
هناك كانت سلمى، مُنافِستي في الجري، ضحكتُها سريعةٌ مثلُ خُطواتِها.

لن أنسى ذلك اليومَ؛ يومَ التَّكريم، حين نالتْ هي الجائزةَ الكُبرى، وكنتُ أنا أُصفِّقُ لها بينما قلبي يغلِي كبركانٍ صامت.
ابتسمتُ يومها أمامَ الجميع، لكنَّ داخلي كان يصرُخُ: «المرَّةَ القادمةَ سأفوزُ أنا.»
وحين ضممتُها بقوَّة، كنتُ أُعاهدُ نفسي في صمتٍ أنني لن أتركَ المجدَ يفلِتُ من بينِ أصابعي مرَّةً أخرى.

أُقلِّبُ صفحاتِ دفتري القديم، فتقفزُ الكلماتُ أمامي كعصافيرَ خرجتْ من قفصِها، ترفرفُ في وجهي وتصرخ:
«لِماذا أهملتَنا؟»

كلُّ جملةٍ تحملُ رائحةَ زمنٍ مضى، وكلُّ عبارةٍ تُعيدُني إلى مقعدي في الصفّ، يوم كتبتُ لأمِّي بطاقةً في عيدِها.
كنتُ أكتُبُ بحِبرٍ من القلب، بكلماتٍ جعلتِ الجميعَ يبكون.
قالوا يومَها إنِّي خُلقتُ لأكتُب، وإنَّ القلمَ وجد طريقَه إليَّ قبل أن أعرِفَ معنى الطريق.

أتسلَّلُ خُلسةً إلى الخزانةِ في زاويةِ البيت. أفتحُ ألبومَ الصور، فيخرجُ الزَّمنُ كلُّه من بينِ الصَّفحات.
ها هو أبي، بملامحِه الواثقةِ ونظرتِه التي تجمعُ بين الحنانِ والصَّرامة.
تتلعثمُ الكلماتُ على لساني… ماذا أقولُ له الآن؟

كم مرَّةً تمنَّيتُ لو أنَّه احتضنَني حين نِلتُ شهادتي؟
كانت عيناهُ تُلاحقانِي بصمتٍ، وكِبرياؤُه يمنعُه من قولِ كلماتٍ كنتُ بحاجةٍ إليها أكثرَ من أيِّ شيء.

قلتُ له مرَّةً: «أبي، ادعُ لي، أريدُ أن أسمعَها منك.»
فابتسمَ مازحًا: «ومَن قال إنِّي لا أدعو لك؟»
لكنَّني كنتُ أريدُها بصوتِه، لا في سِرِّه. كنتُ أريدُها علنًا، بصوتٍ يملأُ البيتَ حُبًّا.

أُقلِّبُ الصَّفحاتِ بارْتجافٍ خفيف.
صورةٌ في رمضان، العائلةُ مُجتمعةٌ حولَ مائدةِ الإفطار، الوجوهُ تفيضُ نورًا، والضحكاتُ حقيقيَّة.
ثمَّ صورةٌ أُخرى… يَنقصُ منها وجهٌ.
وأُخرى، وأُخرى… يبدأُ العدُّ التنازليُّ للفقد.

يا الله، ما لهذه الذَّاكرةِ لا تعرفُ النِّسيان؟
ما لهذه الصُّورِ تزرعُ الحُزنَ في صدري كلَّما حاولتُ الابتسام؟

الفجرُ يُوشِكُ أن يُعلِنَ حضورَه، والهدوءُ يملأُ المكانَ كما لو أنَّ العالمَ قد توقَّفَ عن التنفُّس.
أُحاوِلُ أن أُلملِمَ شتاتَ الذِّكرى، أن أُعيدَ الصُّورَ إلى أماكنِها، أن أُغلِقَ الألبومَ على ما تبقَّى من وجهي القديم.
أُقفِلُ الدُّرجَ، وأهمُّ بإغلاقِ البابِ على قلبي…

لكن، بحركةٍ لا إراديَّة، تمتدُّ يدي إلى النَّافذة.
أفتحُها، فيندفعُ الهواءُ الباردُ حاملًا الصُّورَ، تتطايرُ حولي كفراشاتٍ مذعورة.
تسقُطُ على الأرض، تتناثرُ على السَّرير، على الطَّاولة، على صدري.

كلُّ صورةٍ تهمِسُ اسمي، كلُّ وجهٍ يُناديني من زمنٍ بعيد.
كأنَّ الذِّكرياتِ تأبى أن تُرتَّب، أن تُحبسَ في علبةٍ وتُغلَق.
كأنَّها تُصرُّ أن تظلَّ حيَّةً… في قلبي، مهما طالَ الغياب.

سمية جمعة_ سورية

رؤية نقدية في نص:
{فصلٌ آخرُ للغياب}
للكاتبة/ سمية جمعة من سورية

أولًا: البنية السردية والأسلوب

النص يقوم على سرد ذاتي تأملي يتخذ شكل مونولوج داخلي، إذ تخاطب الأديبة/ سمية جمعة غي شخصية الراوية ذاكرتها، وتعيد ترتيب ماضيها عبر تدفقٍ وجداني متتابع.
تتسم البنية السردية بما يلي:

1. تتابع غير زمني: لا يسير النص وفق تسلسل زمني خطي، بل يعتمد على الارتداد إلى الماضي (الفلاش باك) والانطلاق منه إلى الحاضر، ما يمنحه عمقًا شعوريًا.

2. الوحدة الموضوعية: رغم تشتت الأزمنة والذكريات، يحافظ النص على خيطٍ ناظم هو فعل التذكّر ومواجهة الغياب.

3. غياب الحدث التقليدي: لا يقوم النص على حدثٍ فعلي، بل على تجربة شعورية تُروى عبر الصور والانفعالات، وهو ما يقرّبه من النصوص الشعرية النثرية.

4. لغة الإيحاء: تميل اللغة إلى الشعرية من خلال الصور البلاغية والتكرار الإيقاعي (ليلٌ جديدٌ، الذاكرة، الصور، الغياب…) مما يمنح السرد طابعًا موسيقيًا هادئًا.


ثانيًا: الموضوع والدلالات الرمزية

النص يتمحور حول ثنائية الحضور والغياب، ويعالجها عبر رموز متعددة:
الليل: رمز للذاكرة والحنين، لكنه أيضًا مجال المواجهة مع الذات، حيث تتكشف الجراح الخفية.

النافذة: ترمز إلى الاتصال بين الداخل والخارج، بين الماضي والحاضر، بين الأمل والانكسار.

الألبوم والصور: تمثل الذاكرة الملموسة التي تستحضر الزمن المفقود وتؤكد هشاشة الإنسان أمام الفقد.

الهواء والرياح: رموز للتحرر من قيد الذكرى، لكنها أيضًا تحمل صورًا من الماضي، فتفشل محاولات النسيان.

تتخذ الكاتبة سمية جمعة من عملية الكتابة في شخص الراوية وسيلة لمقاومة الغياب، فالكتابة هنا ليست ترفًا، بل فعل وجودٍ واستعادة.

ثالثًا: البعد النفسي

النص يكشف عن صراعٍ داخلي للرواية بين الرغبة في التذكّر والحاجة إلى النسيان.

الراوية تعيش حالة حنين مؤلم، تحاول عبر استعادة التفاصيل أن تستعيد نفسها القديمة.

تظهر عقدة الأب كجذر نفسي خفي، إذ يُصوَّر الأب بوصفه رمزًا للحنان الممنوع، في حين يبقى حضوره الغائب أحد أسباب الفراغ العاطفي.

يستحضر النص كذلك الطفولة بوصفها الفردوس المفقود، ما يربط الحنين بالزمن الأول النقي، قبل أن يلوثه الفقد.

البنية الشعورية إذًا تقوم على التأرجح بين الأمل والانكسار، بين الحنين والمواجهة، ما يضع النص في إطار الكتابة العلاجية (Writing Therapy) أو ما يُعرف في النقد النفسي بـ Catharsis – أي التطهر عبر البوح.


رابعًا: الجماليات والأسلوب الفني

1. اللغة: لغة رفيعة تمزج بين البساطة والعُمق، وتستخدم الإيقاع الداخلي في الجمل لتوليد تأثير موسيقيّ هادئ.

2. الصورة الفنية: تتعدد الصور (القمر كعاشقٍ متخفٍّ، الكلمات كعصافير، الصور كفراشات مذعورة…) وكلها تتسم بالحركة والنبض، ما يجعل النص حيًّا بصريًا ووجدانيًا.

3. المجاز: تستخدم الكاتبة سمية جمعة المجاز لتكثيف المعنى دون مُباشرة، فالذكريات لا “تحبس في علبة”، بل تبقى “حية في القلب”، وهي استعارة مُكثفة تعبّر عن مُقاومة النسيان.

4. التناص: يحضر التناص الأدبي بوضوح من خلال إشارات إلى نزار قباني ونجيب محفوظ وشكسبير، مما يمنح النص بعدًا ثقافيًا ويؤكد وعي الكاتبة بالتراث الإنساني.


خامسًا: التقييم العام

من منظورٍ أكاديمي، يُعدّ النص نموذجًا مُتقنًا لـ السرد الوجداني الشعري، حيث تتضافر اللغة والإحساس والبناء الزمني لتصوير تجربة إنسانية شديدة الخصوصية.
يتميز بـ: وحدة الإحساس والموضوع.

– عمق التجربة الإنسانية.

– توازن بين العاطفة والتأمل.

– استخدام رموز من الحياة اليومية لتوليد دلالات كونية عن الفقد والحنين.

ويُلاحظ أن النص يحقق ما يُعرف في النقد الجمالي بـ الانسجام الداخلي (Organic Unity)، إذ لا يمكن فصل أي مشهد أو جملة دون أن يختل التوازن العام.


الخلاصة النقدية

«فصل آخر للغياب» للكاتبة سمية جمعة نصٌّ نثريٌّ متماسك يعبّر عن وعيٍ فنيٍّ عالٍ بالتجربة الإنسانية في علاقتها بالزمن والذاكرة.
يجمع بين البوح الشخصي والرمزية الكونية، ويحوِّل الحنين إلى طاقة لغوية راقية تتجاوز السيرة الذاتية لتلامس جوهر الإنسان.
إنه فصل في الحنين الإنساني أكثر من كونه مٌجرد قصة؛
نصٌّ يَكتبُ الغياب ليُثبتَ أن الذاكرة لا تموت، بل تتنفس بالحبر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى