كتاب وشعراء

على هامش رحيل الكاتب التونسي الفذ الشاذلي الساكر….بقلم محمد المحسن

"أنا لا أحبك يا موت..لكنني لا أخافك..وأدرك أنك سرير لجسمي وروحي لحافك..وأدرك أنّي تضيق عليّ ضفافك.." سميح القاسم

في زمنٍ يموج بالضوضاء،تتعالى فيه الأصوات وتتهافت الصور،يغيب عنّا صوت نادر كان يخترق هذا الضجيج بعمقه وصمته معاً..صوت الحكمة المتمثلة في كاتب فذّ..رحيل هؤلاء ليس مجرد خبرٍ في نعيٍ عابر،بل هو لوعة وجودية،وحسرة على فراغ لن يُملىء.
إنها لوعة تشبه اقتلاع شجرةٍ عتيقة من جذورها، كانت ظلاً وارفاً للعارفين ومأوى للفكر،وشاهداً على حقب مضت.مع كل رحيلٍ من هذا النوع،يُغلق بابٌ من أبواب المعرفة كان من الممكن أن ندخل منه إلى عوالمَ أوسع،ونرى الحياة بعين أكثر إدراكا.
رحيل الكاتب الفذ هو رحيل مزدوج: رحيل الجسد،ورحيل عالم كامل كان يحمله في رأسه وقلبه.إنه ليس إنساناً عادياً يغادر،بل هو كون من الأفكار،ومتحفٌ من التجارب،ومكتبة من الأسئلة التي لم يُكشف بعد عن جميع أجوبتها.إننا برحيله نودع ليس فقط ما كَتب،بل ما كان سيكتبه، والأسئلة التي ستظل بلا إجابة،والحكمة التي ذهبت بذهاب ناقلِها.
يذكرنا هذا الرحيل القدري بهشاشتنا الجماعية،وبأن المعرفة والإبداع هبات ثمينة لا تأتي إلا بقدر،وأن حامليها قلائل.يترك كل فيلسوف،وروائي،وشاعر،ومفكر،خلفه فراغاً يشبه صوت صدى في كهف مهجور،يتردد لكن مصدره قد غاب.
في عالمنا العربي،يترك هذا الرحيل جرحاً أعمق. فكل رحيل لقامة فكرية هو خسارة لقطعة من نسيجنا الثقافي الممتد والمهدد بالتمزق.بكينا غسان كنفاني،ونجيب محفوظ،ومحمود درويش،وسميح القاسم،وعبد الوهاب المسيري،وطاهر بن جلون،وآخرين كثر..لم نخسر أفرداً عاديين،بل خسرنا حراسا للذاكرة،وبناة للوعي،وصانعي جمال.
كذلك في بلدنا تونس،بكينا بصمت رحيل كتاب وشعراء أفذاذ نحتوا إبداعهم على الصخر بالأظافر..الشاذلي الساكر،محمد الصغير أولاد أحمد،حسونة المصباحي،أحمد الحاذق العرف،د محمد البدوي..إلخ والقائمة أكثر من أن يتسع لها هذا المقال..
كان هؤلاء بمثابة البوصلة في عواصف التيه، ينيرون الدرب بسردهم وفكرهم،يذكروننا بمن نحن،وبما يمكن أن نكون.رحيلهم هو انطفاء لمصابيح كانت تضيء دروباً وعرة في ظلام الليل.
لكن في قلب هذه اللوعة،تبقى كلماتهم أجنحة لا تقهر الموت.هم رحلوا جسداً،لكنهم حاضرون بأفكارهم التي تتنفس بين السطور،وبأسئلتهم التي ما تزال تلاحقنا،وبجمالهم الذي يظل ينبض بالحياة..كتبهم على الرفوف ليست حجراً،بل بذور متجددة تنمو كلما قرأها عقل متعطش أو قلب متسائل.
إن رحيل هؤلاء الكتاب الأفذاذ يذكرنا بأن مهمتنا ليست البكاء فقط،بل هي
القراءة،والنقد،والحفظ،والبناء على ما تركوه.يعني،أن نكون أوفياء لتراثهم بأن نجعله حياً فينا،لا مجرد ذكرى محنطة.
في النهاية،ربما تكون هذه اللوعة ضرورية.فهي دليل على أننا ما زلنا نقدّر القيمة الحقيقية،ونعي فرادة أولئك الذين يمنحون للحياة معنى أعمق..رحيلهم جرح، لكنه أيضاً شهادة على أن كلماتهم قد وصلت، وآثرت،وتركت فينا ذلك الألم الجميل..ألم الفراق الذي لا يحدث إلا لمن أحببناهم حقاً.

محمد المحسن

*فقدت السّاحة الثقافية بتوزر صباح يوم أمس الثلاثاء الأديب والكاتب الشاذلي السّاكر،أحد أبرز رموز الأدب بالجريد،الذي شكّل بإبداعه وعطائه الممتد علامة فارقة في مسيرته،وأسهم في إثراء الوعي الثقافي والاجتماعي عبر أعماله بروح إنسانية عميقة ورؤية فكريةٍ متفردة.
لقد فقد الوسط الثقافي والأدبي برحيله قامة كبيرة أثرت المكتبة التونسية بإبداعٍ مخلص ومسيرةٍ حافلة بالعطاء،وظلّ حاضرًا في قلوب الأجيال الجديدة من الكُتّاب والقرّاء بإنتاجه المتميز وتجربته الملهمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى