حمزه الحسن يكتب :الجماعات المخصية

يقول إتيين دو لابويسيه في كتابه” العبودية الطوعية”:
“هناك ثلاثة أنواع من الطغاة، فالبعض الأول يسود عبر انتخاب من الشعب، والبعض الآخر بقوة السلاح، أما البعض الأخير فبالتوالي الوراثي.
” أما الذين اغتصبوا السلطة بقوة السلاح فيتصرفون بها كأنهم في بلاد قاموا بغزوها. وأما الذين ولدوا ملوكا فليسوا على العموم أفضل مطلقا،
و الذين ولدوا وترعرعوا في حضن الطغيان، يرضعون الطغيان طبيعيا مع الحليب”
لطالما تساءلت كيف استطاعت الأحزاب الشمولية من إخصاء وبتر نمو الجماعات والأتباع الفتية وتحويل الطاعة المطلقة الى نوع من الأخلاق تحت شعارات المركزية أو الالتزام أو الثبات المبدئي أو غيرها؟
ربما عثرت على الإجابة خلال دورة تدريب كلبة ابنتي وهي من كلاب الرعي، وتقوم دورة الترويض والتدجين على قواعد ثابتة: التكرار، التلقين، العقاب، المكافأة.
ليس الكلام هنا عن الخصاء العضوي الممارس ضد العبيد ـــــــــــــ تغير مفهوم العبودية اليوم من اللون الى عبودية الاعلام والنظريات والأوهام والدعاية والأزياء والخ ــــــ بل عن الخصاء الذهني أو العقلي Castration Mintel وهو يوازي رمزياً الخصاء العضوي: في الأول عطب وبتر جسدي ،
وفي الثاني عطب وعقم عقلي وبتر فكري وهو الأخطر،
لان الاجترار والتكرار ليس تفكيراً والتفكير هو إنتاج معرفة جديدة.
يصيب هذا الخصاء المجتمع كما يصيب الفرد والشعوب المخصية تلف وتدور في المكان نفسه. هو عطب عن إدراك العالم كما هو بسبب الذات المغبرة المدمرة المزيفة الملقنة،
أفكار تحيزية، حرن عقلي، قوالب تفكير، صور نمطية عن الظواهر،
العناد وانعدام المرونة وافكار قطعية نهائية، تصلب، قراءة سطحية لظواهر معقدة والركون للتفسيرات السريعة المريحة، تخيل الاخر كما نتصوره لا كما هو ونبني مواقفنا المسبقة منه بلا تجربة مباشرة. جزء كبير من تاريخنا البعيد والقريب هو” تاريخ تخيلي” رغبي وسرديات شفوية غير موثقة. تاريخنا تخيلي أو سرديات شفوية،
وهذا النوع من التاريخ الرغبي عرضة للاهواء والرغبات، ونحن لا نملك تاريخا واحدا مفسرا كما هو حال شعوب الارض، بل نملك رواة لهذا التاريخ،
اي ان الجانب الجوهري من الهوية مشوه:الذاكرة الجماعية.
كما أن المخصي عقلياً عاجز عن التفسير والتحليل، لكنه أيضاً عاجز عن التركيب والتنسيق، وعاجز عن التفكير ولو منح كل حرية التعبير لأن العقل العاطل والمخيلة المصابة والذات المشوهة عاجزة عن التفكير لكنها قادرة على الاجترار.
يضطرب المصاب أمام ظواهر مركبة لا يجد علاقة بينها وقصصه عن الاشياء تتسم بالثغرات والفراغات،
وهو أسير بيئة محدودة وكل تفسيراته لا تخرج عن معايير محلية
ضيقة ونمطية كما لو أنها المعيار الوحيد. هو بتعبير برنارد شو يعتبر حدود القرية حدود العالم.
الخصاء العقلي أحد مفاهيم علم النفس الاجتماعي وتتعدد الأسباب من اجتماعية وسياسية أوعائلية ومع شدة الضغط وتعدد مراكز القوى تكون قوة وشراسة الخصاء العقلي.
تلعب المدارس الابتدائية عندنا دوراً أساسياً في الخصاء العقلي لأنها تقوم بواجب الضبط النفسي والعصبي كالمصحات النفسية وصناعة النسخ والأشباه وتفسيرها السطحي الوحيد عن الطفل المبدع هو الخلل النفسي وهذه طبيعة العقلية المبسطة في حين تقوم المدارس الحديثة في العالم على تشجيع ودعم الفردية والمغامرة الفكرية وعبور القوالب الى التفكير الحر.
هذه الظاهرة لا تشمل فئة محددة من البشر بل تصيب أطباء ومثقفين وعلماء وخبراء ورؤساء وعامة الناس. تنتج عن هذا النوع من الخصاء تشوهات خطيرة، لكنها تضيع في مجتمع مخصي يعتبر البلادة والخوف والتردد والحرن والعناد والجمود العقائدي والتصلب الفكري من شروط الثبات الفكري مع ان الافكار متغيرة وهنا تكون المهزلة حيث يضيع المخصي بين الخصيان،
لكنه ينكشف في مجتمع حر وطليق ومفتوح وعادل وآمن وبوضوح أكثر في عالم المنفيين في دول ديمقراطية،
مما يقود في حالات الى صدمة نفسية عندما ينتقل المقموع
من بيئة مغلقة جامدة قهرية الى بيئة الحرية والانفتاح والتفكير الحر
والخيارات الفردية العادلة،
وخلال سنوات المنفى رأيت بوضوح مخيف آثار هذه الصدمة التي تسمى صدمة نفسية أو ثقافية من عالم واضح الحدود ومسالم وهادئ بلا مفاجآت،
شاهدت حالات من الفارين لكن بقدرة شاقة على التخفي كالإنزواء،
والخجل والخوف من المبادرة مع مشاعر دونية مموهة،
أو تظهر على شكل إستعراض وتبجح فج ووقح هو في الجوهر مظهر مموه وخادع للخصاء العقلي والجبن لان الشجاعة لا تحتاج الى استعراض لانها ضوء داخلي آسر يشع على الوجه كوجه رضيع نائم.
قلة من البشر من تنهار عندهم فجأة، في الظاهر، المعرفة القديمة والنماذج القديمة، في لحظة ادراك غير متوقعة تسمى” التحول المعرفي المفاجئ” وبزوغ معرفة جديدة مختلفة كفرح ولادة بعد مخاض طويل أو شروق شمس.
التدرب على الحرية أصعب من قبول القمع، لأن القمع المنظم السياسي والاجتماعي يبدأ مبكراً منذ الطفولة،
والأخطر يشرعن له بقوانين وعادات وطقوس وقيم صارمة بعناوين مزيفة،
لذلك يتم قبوله كجزء ” طبيعي” من النظام العام،
بل المجتمع يشجع الطفل الصامت و”المؤدب” المخلوس، والهادئ،
على أنها من شروط التربية وفي الحقيقة هو خائف ومكبوت، ويخضع لخصاء عقلي وعقم متدرج في التفكير وبناء قوالب جاهزة سطحية مُلقّنة عن الحياة والقيم،
وتستمر عملية التدجين والترويض في المؤسسات والمناهج،
وأجهزة السلطة والاحزاب لكن كل هذا الوضع الكارثي يتكشف في مواجهة
حياة أخرى وثقافة مختلفة، لأن الآخر ليس ديكوراً أو مختلفاً، لكنه جزء جوهري لرؤية ذواتنا فيه كمرآة.
الأمر نفسه ينطبق على المرأة، وفي كتابها” المرأة المخصية” تبحث جيرمين جرير، باحثة وأديبة ومناضلة في موضوع المرأة المخصية،
عندما تقوم التربية ووسائل الاعلام والدعاية بصنع صورة نمطية تجارية لها في السلع والمناهج وفي القصائد.
في الشرق عادة يتربى الطفل من ذكرين لأن الأم تستعمل معايير الأب الذكورية في تربية الأطفال.
لو كان حجم الخصيتين وعرض الشوارب معيار الشجاعة لصار ثيران الوطن أبطالاً وفلاسفةً ومناضلين وثواراً.
إن بعض المخصيين عضوياً قد قاموا بأعمال خارقة نفعت البشرية مثل الرحالة الصيني المخصي تشينغ الذي وصل سواحل أفريقيا في زمن المراكب الشراعية،
وحاكم مصر الشهير الأخشيدي وهو مخصي عضوياً، لكن لا يذكر التاريخ أن مخصياً عقلياً واحداً قاد دولة وأفلح في إدارتها كما في العراق أمس واليوم حيث صار الخصاء العقلي نظرية في إدارة الدولة والسلطة،
الكل في ضباب ومتاهة ولا يعرف أين يذهب رغم أن شاربه يربط الثور.
العربي بصورة عامة بسبب القهر الطويل عبر قرون لا يعتبر فقدان الأمل والعدالة والمستقبل المجهول والضجيج والاكاذيب وانطفاء شهية الحياة نوعا من التعذيب الجسدي والنفسي الذي يطفئ قوة التألق والبصيرة العميقة والشغف لانه تربى على التعذيب الفج المباشرة مع ان نظرة تهديد تعتبر اساءة صامتة وأي تلاعب واستغلال يعتبر عدواناً.
من يتحدث بلغة قطعية يقينية جازمة وثوقية في قضايا السياسة والفكر والحياة هو كائن مخصي عقلياً ويتوهم انه ثوري ومناضل عاش واهماَ ويموت واهماً لان اللغة الفكرية احتمالية تقريبية وليست لغة جازمة لانه يؤمن ان غرز الحوافر في الأرض والحرن والعناد صفة ثورية حاله حال الارهابي المتطرف وكلاهما من جذر مأزق واحد هو الخصاء العقلي المنتج لليقين الأعمى وتسطيح الظواهر المركبة بمقولات مبسطة بلاغية انشائية. يشنع الثور ـ ي على الطائفي الارهابي مع انه توأمه ووجهه الآخر وهم شركاء في المحو والاقصاء والعقلية الصلبة والمخ اليابس والايمان الحرفي بالنصوص وملكية الشرف والتاريخ والمستقبل والحقيقة وإما الكل أو لا شيء، لا تسويات ولا مناطق رمادية، لكنهما لا يلتقيان في مكان واحد لان العصابة تحجز الزمان والمكان ولا تسمح في المنافسة والشراكة سواء في سلطة او شارع او حي او في سجن او مقهى.
عام 1813 تحت حكم سلالة تشينغ في الصين، إنتفض الخصيان وأسقطوا إمبراطورية جائرة، فهل يفعلها خصيان العراق عضوياً وعقلياً، في تحالف مشترك وهم الأكثرية الساحقة في معركة مع السلطة والمجتمع؟
” يا خصيان الوطن إتحدوا”







