سِرُّ المرسم….قصه قصيره بقلم سليمان أحمد العوجي

كان الليلُ يزحفُ على جليدِ الوقتِ ببطءٍ شديدٍ كأفعى جريحةٍ، والأفكارُ تُبدِّلُ جلدَها ولونَها عشراتِ المرّاتِ في الساعةِ الواحدةِ. مئاتُ القصصِ حبَكَها في مخيّلتهِ وزجَّ بها في معركتهِ مع ظنونٍ كشّرتْ عن أنيابِها وهاجمتْهُ من كلِّ الجهاتِ، وما إنْ تصلُ القصةُ المبتكرةُ إلى خواتيمِها حتّى ينسفَها «ديناميتُ» الشكِّ لتغدو ركامًا من الخيبةِ، ثمَّ يبدأُ من جديدٍ بحَبْكِ قصةٍ أخرى باحتمالاتٍ مغايرةٍ أشدَّ ألمًا. بعد أقلَّ من نصفِ ساعةٍ سيترجَّلُ الفجرُ من حافلةِ الليلِ. نفدتْ مؤونتُهُ من السجائرِ فقرَّرَ النومَ، لكنَّ قرارَهُ كانَ هزيلًا. لبسَ ثيابَهُ ونزلَ يمشي في الشارعِ الغارقِ في السكونِ والظلامِ. استوقفَهُ رجلانِ مخمورانِ، طلبَ منهما سيجارةً، وكعادةِ السكارى كانا كريمَينِ، فأعطوهُ علبةَ سجائرٍ ومضيا يغنّيانِ معًا أغنيةً لا وجودَ لها في قاموسِ الأغاني.
مشى( كنعانُ )لمسافاتٍ طويلةٍ في شوارعِ الحيّ التي لا تتّسعُ لما هو فيهِ من قلقٍ. كانَ هدفُهُ الوحيدُ أنْ يقتلَ «تنينَ» الوقتِ الذي ينفثُ حممَهُ في رأسهِ.
في الصباحِ كانَ (كنعان )يُفلّي الشارعَ الرئيسيَّ في المدينةِ، يحدوهُ فضولٌ كبيرٌ بحثًا عن مرسمِ الفنانِ( أسعد العبدالله). وأخيرًا، بعدَ وقتٍ قصيرٍ، كانَ يطرقُ بابَ المرسمِ. فتحتْ البابَ صبيّةٌ سمراءُ عشرينيّةٌ في وجهِها من الإغراءِ ما يُعادلُ ألفَ دعوةٍ إلى مائدةِ الشيطانِ. كانتْ ترتدي ثوبًا أسودَ قصيرًا جدًّا يكشفُ عن نصفِ صدرِها وساقيها. ارتبكَ للوهلةِ الأولى، وظنَّ أنّهُ أخطأ بالعنوانِ أو أنّهُ اقتحمَ غرفةَ نومِ هذهِ الفتاةِ التي قطعتْ سيلَ أفكارهِ قائلةً بصوتٍ كالموسيقى:
– السيّد (كنعان)، أليسَ كذلك؟
– نعم.
– الأستاذُ (أسعدُ )ينتظرُكَ، تفضّل.
نزلَ كنعانُ أربعَ درجاتٍ، والفتاةُ شبهُ العاريةِ تمشي أمامَهُ، حيثُ كانَ المرسمُ في قبوٍ لأحدِ الأبنيةِ، وهو قاعةٌ متوسّطةٌ تعجُّ بالقطعِ الخشبيّةِ وعلبِ الألوانِ الفارغةِ وبعضِ اللوحاتِ المركونةِ في كلِّ الأنحاءِ والكثيرِ من القماشِ المبعثرِ وزجاجاتِ النفطِ الفارغةِ. فُتِحَ بابٌ صغيرٌ في صدرِ المرسمِ، خرجَ منهُ رجلٌ خمسينيٌّ بوجهٍ بشوشٍ، أنيقِ المظهرِ رغمَ بساطةِ ثيابِه، بلحيةٍ خَضَّبها شيبٌ محبّبٌ. تقدَّمَ الرجلُ تسبقهُ ابتسامةٌ فيها من الحذرِ الذكيِّ الشيءُ الكثيرُ، وقال:
– أهلًا أستاذ (كنعان)، وأخيرًا التقينا. تفضّل.
أشارَ عليهِ بالجلوسِ على كرسيٍّ جلديٍّ كبيرٍ مقابلَ لوحةٍ كبيرةٍ غيرِ مكتملةٍ لفتاةٍ جميلةٍ تلتفتُ إلى الخلفِ وتديرُ ظهرَها للناظرِ. عرفَ كنعانُ دون عناءٍ أنَّ صاحبةَ هذهِ اللوحةِ هي الفتاةُ التي فتحتْ البابَ، إذ بدا الشبهُ متطابقًا. أعربَ (كنعانُ ) عن إعجابهِ بأعمالِ( أسعد) الذي شكرَهُ بعباراتٍ جاهزةٍ اعتادَ أنْ يُكرّرَها أمامَ معجبيه، وشكرهُ على المقالِ الجميلِ الذي كتبَهُ عنهُ في الصحافةِ، برغمِ عدمِ المعرفةِ الشخصيّةِ بينهما. تقدّمتْ الفتاةُ من كنعان، وانحنتْ بلباقةٍ وهي تقدّمُ القهوةَ وصدرُها العاري لوحةً متكاملةً من الأنوثةِ الصارخةِ. قالتْ:
– تفضّل أستاذ، قهوتُنا سادة دائمًا، وإذا كنتَ تحبّ…
تدخّلَ (أسعدُ)مقاطعًا:
–( هِبَة) تريدُ أن يشربَ الجميعُ على ذوقِها، على كلِّ حالٍ السادةُ من عندنا، والسُّكّرُ من عندكَ…
وضحكَ الجميعُ. وبينما بدأَ أسعدُ يشرحُ بعد سؤالِ (كنعان) عن سببِ اختيارهِ الرسمَ بالطريقةِ الواقعيّةِ، كانتْ عينا كنعانَ تلوبانِ في أنحاءِ المرسمِ كعيني مخبرٍ يبحثُ عن دليلٍ لظنونِه التي حرمتْهُ النومَ أيّامًا طوالًا.
(ربّما كانتْ هذهِ البلوزةُ الحمراءُ المرميةُ على الكرسيِّ المجاورِ تعودُ لها… ربّما هذا هو كرسيُّها… ربّما يوجدُ خلفَ هذا البابِ المغلقِ غرفةُ نومٍ مجهّزةٌ بكلِّ وسائلِ الحبِّ… لا، لا… قد تكونُ مستودعًا لمعدّاتِ الرسمِ…)
آهٍ… لو امتلكَ الشجاعةَ الكافيةَ لاقتحمَ هذهِ الغرفةَ اللغز…
قطعَ أسعدُ إبحارَ ضيفهِ في بحرِ هواجسِهِ قائلًا:
– أستاذ (كنعان) اشربْ قهوتَكَ، كأنها لم تُعجبكَ.
ونادى:
– (هِبَة)! بدّلي القهوةَ بمشروبٍ آخرَ…
قال( كنعانُ):
– لا، لا أبدًا… لاحاجةَ لذلك… كنتُ فقط أفكّرُ… هلْ تستقبلُ ضيوفَكَ هنا دائمًا؟
ابتسمَ( أسعدُ) وقال:
– يا سيدي، أنا أشذُّ عن قاعدةِ الرسّامين، وكمْ من عملٍ أرسمُهُ بحضورِ الجمهورِ، ولكنْ هناكَ غرفةُ راحةٍ داخلَ المرسمِ…
وأشارَ إلى البابِ الذي ألهبَ خيالَ (كنعان).
نهضَ (أسعدُ) من كرسيِّه وفتحَ بابَ الغرفةِ، وتبعَهُ( كنعانُ ) مسرعًا تحتَ وطأةِ رغبتهِ المستنفَرةِ… نظرَ إلى الداخلِ، وكانتِ المفاجأةُ أقوى من أعصابِهِ التالفةِ. استندَ إلى البابِ كي لا يقعَ… هاهو شكُّهُ الهزيلُ يخرجُ من قمقمِهِ منتصبًا أمامَهُ حيًّا يُرزقُ كماردٍ… حاولَ أن يتماسكَ لكنَّ ساقَيْهِ خذلتاهُ وسقطَ على الأرضِ.
أفاقَ (كنعانُ )على أصواتٍ بعيدةٍ تتداخلُ كأنّها تأتي من بئرٍ عميقةٍ… شعرَ بيدينِ ترفعانِ رأسَهُ برفقٍ، وصوتِ هِبَةَ المرتجفِ يقولُ:
– أستاذ… أستاذ (كنعان)! أرجوكَ افتحْ عينيكَ…
كانَ( أسعدُ) يجثو إلى جوارِه، يرشُّ قطراتٍ من الماءِ على وجهِه وهو يتمتمُ بقلقٍ:
– يبدو أنّهُ فقدَ وعيَهُ من شدّةِ الإرهاقِ…
فتحَ (كنعانُ )عينيهِ ببطءٍ، رأى الوجوهَ المذعورةَ فوقَهُ، والضوءَ الخافتَ يتماوجُ على السقفِ مثلَ ذاكرةٍ مكسورةٍ. حاولَ أن ينهضَ، فساعداهُ على الجلوسِ فوقَ الكرسيِّ الجلديِّ الكبيرِ، وناولَهُ أسعدُ كوبًا من الماءِ. تنفّسَ بعمقٍ وأدارَ نظرَهُ نحوَ البابِ المفتوحِ على الغرفةِ، ثم قالَ بصوتٍ مبحوحٍ:
– أريدُ أنْ أرى…
تبادلَ (أسعدُ ) و(هِبَةُ )نظرةً متردّدةً، ثم أفسحا لهُ الطريقَ. نهضَ كنعانُ مترنّحًا وسارَ بخطواتٍ متعثّرةٍ نحوَ الغرفةِ. نظرَ إلى الداخلِ، وكانَ المشهدُ يضربُ بصرَهُ كوميضِ برقٍ في ليلٍ مقفرٍ. لم تكن هناكَ غرفةُ نومٍ كما خُيِّلَ له، بل كانتْ لوحةٌ كبيرةٌ تحتلُّ الجدارَ المقابلَ، تتدلّى من صدرِها الأنوارُ الخافتةُ كمصابيحِ اعترافٍ مؤلمٍ. اقتربَ بخطواتٍ متردّدةٍ كمنْ يمشي فوقَ جمرٍ، وكانَ( أسعدُ) يمشي خلفَهُ مطمئنًّا، لا يعلمُ أنَّ كلَّ خطوةٍ من خطواتِ( كنعان) كانتْ تُقرّبُهُ من الهاويةِ التي حفرَها لهُ القدرُ بصمتٍ. وقفَ أمامَ اللوحةِ كأنَّهُ وقفَ أمامَ قبرٍ مفتوحٍ ينتظرُ اعترافَ الأرضِ. الفتاةُ في اللوحةِ كانتْ تبتسمُ نصفَ ابتسامةٍ يعرفُها جيّدًا، ووجهُها مائلٌ قليلًا نحوَ الضوءِ، والعينانِ مبلولتانِ بتلكَ النظرةِ التي طالما قالتْ بدون كلام: «احذرْ أنْ تغيبَ، فغيابُكَ يُطفئُني». لم يحتجْ إلى كثيرٍ من الوقتِ ليعرفَها… كانتْ لَيْلَى. لَيْلَى بكلِّ تفاصيلِها، بشالِها الأبيضِ الذي كانَ هديّتَهُ في شتاءٍ بعيدٍ، بخاتمِ الفضّةِ في إصبعِها الصغيرِ، وحتى بالخَالِ القريبِ من زاويةِ فمِها الذي طالما قبّلَهُ في لحظاتِ الوداعِ المرتبكةِ. شهقَ كمنْ تلقّى طعنةً في الرئتينِ. كانتِ الألوانُ ما تزالُ طريّةً، تفوحُ منها رائحةُ الزيتِ الطازجِ والخذلانِ الممزوجِ بالورنيشِ. مدَّ إصبعَهُ المرتجفَ ولمسَ أطرافَ الشالِ في اللوحةِ، فتركَ بصمتَهُ فوقَ وجهِها كأنّهُ يُلطّخُ الزمنَ بذنوبِه كلّها. قالَ بصوتٍ متقطّعٍ كأنّهُ يخرجُ من صدرٍ يغلي:
– مَن هذهِ؟
ابتسمَ (أسعدُ) دونَ أنْ يلحظَ العاصفةَ التي تتكوّرُ خلفَ عينيْ ضيفِه، وقالَ ببساطةٍ مُرهقةٍ:
– جميلةٌ أعرفُها… جاءتني صُدفةً في أحدِ المعارضِ، ألهمتني ملامحُها، فقرّرتُ أنْ أُخلّدَها. كانتْ مختلفةً… فيها شيءٌ من الحنينِ القديمِ… اسمُها…
توقّفَ للحظةٍ يبحثُ في ذاكرتهِ، فأجابهُ( كنعانُ) بمرارةٍ تقطرُ من بينِ أسنانهِ:
– (لَيْلَى)… أليسَ كذلك؟
التفتَ( أسعدُ) نحوهُ بدهشةٍ صادقةٍ وقالَ:
– نعم! تعرفُها؟ امرأةٌ غريبةُ الأطوارِ، قالتْ لي يومًا إنَّ رجلًا يحبُّها إلى حدِّ الجنونِ، وإنّها تخافُ أنْ يلتهمَها هذا الحبُّ كما تلتهمُ النارُ ورقةً يابسةً… ظننتُها تمزحُ.
ضحكَ( كنعانُ )ضحكةً يائسةً كأنّها شهيقُ حياةٍ تُسحَبُ منهُ عنوةً، وقالَ:
– لم تكنْ تمزحْ يا أستاذ… كانتْ فقط تُدرّبُ نفسَها على الخيانةِ بهدوءٍ.
تراجعَ أسعدُ خطوةً إلى الوراءِ وأدركَ متأخّرًا أنَّ هذا الضيفَ لم يأتِ ليكتبَ عن الفنِّ، بل ليقرأَ مرثيّةَ قلبِه على الجدارِ. قالَ متلعثمًا:
– لم أكنْ أعلمْ… أقسمُ لكَ أني لم أعلمْ… كانتْ تأتي لتجلسَ هنا، تتأمّلُ الألوانَ وتضحكُ أحيانًا… قالتْ إنّها تحبُّ أن ترى كيفَ يُخلَقُ وجهُها من الضوءِ…
قاطعهُ (كنعانُ ) بصوتٍ منخفضٍ لكنهُ حادٌّ كحدِّ السكينِ:
– وأنا كنتُ أظنُّ أنّي أعرفُ وجهَها حينَ تضحكُ… يا للسخرية… لم أكنْ أراهُ إلّا في الظلامِ الذي كنتُ أعيشُهُ معها.
صمتٌ ثقيلٌ سقطَ بينهما كحائطٍ من رمادٍ. تقدّمَ (كنعانُ ) نحوَ اللوحةِ ببطءٍ، حملَ فرشاةً كانتْ ملقاةً على الطاولةِ، وغمسَها في لونٍ أسودٍ، ثمَّ مرّرَها على وجهِ لَيْلَى في اللوحةِ بخطٍّ واحدٍ حادٍّ محا بهِ ابتسامتها إلى الأبدِ. قالَ بهدوءٍ غريبٍ:
– الآن فقط صارتْ واقعيّةً حقًّا.
تركَ الفرشاةَ تتدلّى من يدِه، واستدارَ نحوَ البابِ دونَ أنْ ينظرَ خلفَهُ. كانَ( أسعدُ )ما يزالُ واقفًا مكانَهُ كتمثالٍ عاجزٍ عن الفهمِ. وقبلَ أنْ يخرجَ( كنعانُ)، التفتَ وقالَ بصوتٍ خافتٍ كأنَّهُ يُحدّثُ نفسَهُ:
– ليسَ أصعبَ منَ الخيانةِ إلّا أنْ تُرسمَ بالألوانِ الزيتيّةِ… فتبدو أجملَ ممّا كانتْ في الحقيقةِ.
وأغلقَ البابَ وراءهُ بهدوءٍ، تاركًا رائحةَ السجائرِ والخذلانِ معلّقةً في الهواءِ كأثرٍ أخيرٍ من إنسانٍ صدّقَ أنَّ الحبَّ لا يُخدعُ… لكنَّ اللوحةَ على الجدارِ كانتْ ما تزالُ تبتسمُ، ابتسامةً نصفُها من الضوءِ ونصفُها من الخطيئةِ.







