رؤي ومقالات

د. فيروز الولي تكتب :اليمن… دولة تتكرر فيها الكارثة لأن الشعب يختار الفشل كأنه قدر مقدس

في اليمن، لا تحتاج إلى عالم نفس لتحليل الانهيار، ولا إلى خبير اقتصاد لفهم الفقر، ولا إلى سياسي بارع لحل الأزمة.
يكفي أن تنظر إلى اختيارات اليمنيين لتفهم لماذا يعيد البلد إنتاج مأساته منذ نصف قرن:
اختيارات مبنية على الفزعة، والقبيلة، والعاطفة، وقصص “رجّال من ظهر رجّال”، وكأن الدولة مجرد مضيفة قبيلة وليست مشروع حياة لـ 30 مليون إنسان.
علم النفس يقول: اليمني لا يختار حاكمًا… بل يختار قدَرَه
اليمني يعيش في صراع نفسي مزمن:
يريد دولة حديثة… لكنه يصوّت لشيخ قبيلة.
يريد قانونًا… لكنه يسلم بالعرف.
يريد حياة مستقرة… لكنه يهتف لمن جرّه للحرب.
يكره الفشل، لكنه يحب “المجرب” الذي أثبت فشله ألف مرة.
كأن الشعب مصاب بـ متلازمة التعلّق بالجلّاد… يشتكي منه كل يوم، ثم يدافع عنه في أول مواجهة.
اجتماعيًا: مجتمع يحمي الفاسد لأنه من “أهلنا”
في اليمن، لا مشكلة أن يكون المسؤول جاهلًا… المهم أنه ليس من القرية الثانية!
ولا مانع أن يكون فاسدًا… طالما يوزع بعض المنافع على جماعته.
وهكذا نعيش في دولة تُدار بالقرابة، لا بالكفاءة… بالدم، لا بالعلم.
المجتمع نفسه يصبح حارسًا لخرابه.
ثقافيًا: بطولة السلاح تهزم بطولة العقل
الثقافة السائدة تمجد “القوي”، لا “القدير”.
تعظم “المدرع” لا “الخبير”.
تصفق لمن يطلق الرصاص، لا لمن يكتب خطة إصلاح.
من الطبيعي، إذًا، أن تتحوّل اليمن إلى ساحة صراع لا دولة.
اقتصاديًا: الفقر ليس نتيجة… بل أداة حكم
حين يجوع الناس، يتوقف العقل، وتعمل الغريزة.
وعندما تعمل الغريزة، يصبح صوت الرصاصة أعلى من صوت المنطق.
القيادات—كل القيادات—تعرف ذلك جيدًا:
الفقر هو أفضل طريقة لضمان الولاء.
جائع اليوم… مقاتل غدًا… تابع بعد غد.
أما هم؟
في الخارج… يكدّسون العقارات، ويديرون استثمارات، ويعيشون في رفاه يشبه الخيال.
حرب اليمن تحوّلت إلى أكبر مشروع تجاري في تاريخهم.
عسكريًا: الجيوش كثيرة… والدولة بلا جيش
في اليمن، هناك جيوش للجميع إلا الدولة.
جيوش حزبية، مذهبية، مناطقية، ممولة من الخارج، موجّهة للخارج، ومستعدة لقتال الداخل فقط.
قوة المليشيا تفوق قوة المؤسسة، والولاء يذهب للجهة التي تدفع، لا للعلم الذي يرفرف.
وهكذا تبقى الحرب مستمرة…
لا لأنها ضرورية، بل لأن هناك من يتقاضى أجرًا على استمرارها.
سياسيًا: تدوير الفشل كأنه سلعة وطنية
السياسي اليمني يشبه جهازًا كهربائيًا خربًا…
كل الخبراء يؤكدون أنه لا يصلح،
لكن الدولة تصر على إعادة تشغيله كل سنة بشكل جديد:
مرة وزير… مرة نائب… مرة مستشار… مرة مبعوث…
نفس الوجوه تعاد طلاءها، ثم نُقنع أنفسنا أنها “الإصدار المطوّر”.
السياسة في اليمن لا تهدف لبناء دولة…
بل لإطالة عمر شبكة مصالح معقدة قائمة على الفساد.
دبلوماسيًا: اليمن حاضر في كل الملفات… غائب في كل القرارات
في المؤتمرات الدولية، الجميع يتحدث عن اليمن،
ولا أحد يسمع من اليمن.
الدبلوماسي منشغل بتجديد الإقامة،
والسفير يفاوض على مدارس أولاده.
أما الوطن؟
في آخر جدول الأعمال… بعد الغداء، وقبل صور الختام.
المأساة الدرامية الكبرى: اليمنيون يختارون من دمّرهم… ويطالبون الدولة بالنجاة!
كل مرة ينهار فيها البلد، نلوم السياسي، ونلعن الفاسد، ونشتم الحرب…
لكننا لا نجرؤ أن نقول الحقيقة:
الاختيار الخاطئ هو أصل الكارثة.
والتكرار هو سبب استمرارها.
البلد ليست “طبخة” نجرب فيها طباخين فاشلين حتى يضبط الملح.
البلد مسؤولية…
والوعي ليس رفاهية…
والاختيارات ليست نكتة…
والوطن ليس ساحة تجارب للمراهقين السياسيين.
الخلاصة: قبل أن نغير الحكومة… يجب أن نغيّر طريقة التفكير
لا دولة دون وعي.
ولا نهضة دون عقل.
ولا مستقبل دون أن يتحمّل كل يمني مسؤوليته في اختيار من يحكمه.
اليمن لن ينهض بالسلاح، ولا بالفزعات، ولا بالعواطف…
سينهض فقط عندما يتوقف اليمنيون عن التصويت لمن دمّرهم،
ويقررون—لأول مرة—أن يعطوا مستقبلهم لمن يستحقه، لا لمن يرفع شعارًا أعلى أو يصرخ بصوت أقوى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى