كمواطن صالح سدد ضرائبه للحياة…..بقلم محب خيري الجمال

(1)
سددتُ فاتورتي للحياة،
دفعتُها نقدا،
بأحلامي الصغيرة التي كانت تركضُ حافيةً في الأزقة،
وبأصواتي التي لم تجد مكبّرا إلا صدري.
كنتُ مواطنا صالحا،
أوقّع على الصبر كما يوقّعُ الجنود على وصاياهم،
أرتدي ثيابي المهترئة
كمن يرتدي وطنا بحجم الخطأ.
في قائمة المشتريات اليومية،
أضيفُ رغيفا من الأمل،
وقسطا مؤجلا من الحلم،
وقليلا من الصمت المعلّب
للاستخدام الليلي في غرف الانتظار.
كلّما مرّت بي الحياة
وضعتُ في فمها عملةَ صمتي،
وقالت لي بابتسامةٍ رسمية:
الدفعةُ وصلت، يا مواطن،
سددتُ ضرائب الحب أيضا،
مرّةً حين أحببتُ امرأةً بلا عنوان،
ومرّةً حين أحبّتني البلاد كخطيئةٍ،
فأعادتني إلى السطر الأول.
كل شيءٍ في هذه الحياة قابلٌ للفواتير:
الضحك له ضريبة،
والنوم له غرامة تأخير،
أما الحلم فله رخصةُ عبورٍ
لا تصدرُ إلا بعد الموت.
كنتُ مواطنا صالحا حقا،
لم أصرخ، لم أتمرّد،
كنتُ أوقّعُ بياناتِ الطاعة
بدمعٍ متزنٍ وابتسامةٍ نصفِها دمٌ ونصفها خجل.
الآن، بعد أن امتلأت دفاترُ الحكومة من أنفاسي،
أطالبُ بوصلِ استلامٍ
لقلبي الذي خدم الوطنَ بلا تأمين.
يا سادة،
أعيدوا لي القسطَ الأخير من الطفولة،
لقد دفعتُ كلّ شيء:
الطفلَ الذي حلمَ بالنجوم،
الرجلَ الذي صعدَ إليها بخيبةٍ،
والشاعرَ الذي احترقَ وهو يكتبُ اسمَ البلاد.
سددتُ ضرائبي كاملةً،
لكن أحدا لم يعُد لي الوطن،
بل عاد لي إيصالٌ أبيض
يقول:
لقد انتهت مدةُ إقامتك في الحلم
(2)
في المساء،
أتفقدُ فاتورتي في مرآة الحمّام،
أجدُ وجهي مختوما بختمِ وزارة الخيبة،
وعينيّ مؤرَّختين بتواريخ انتهاء الصلاحية.
كلُّ ما فيَّ صالحٌ للدفع:
دموعي نقدٌ،
أنفاسي شيكاتٌ مؤجلة،
وأفكاري أسهمٌ في بورصة الغياب.
أحيانا أفكر أن أُعلن إفلاسي أمام المرآة،
أن أبيع ظلي لتاجرٍ في السوق السوداء،
أن أضع قلبي في المزاد العلني،
لعل أحدهم يشتريه بثمنٍ رمزيٍّ من الدهشة.
كلُّ أعضائي تؤدي واجباتها الوطنية:
رئتاي تتنفسان الغبار بشرف،
معدتي تهضمُ القهرَ بهدوءٍ إداري،
وأصابعي تكتبُ التقارير ضدّي كلّ مساء.
أنا مواطنٌ صالح،
حتى في الموت أضع قدمي داخل القبر بترتيبٍ رسمي،
وأطلب من الديدان أن تبدأ العمل وفق الدوام المحدّد.
(3)
يا بلاد،
أنا آخر من بقي في طابور الانتظار،
أحملُ بطاقة شخصية مكتوبٌ فيها:
المهنة: دافع ضرائب للحياة.
أريدُ أن أعيش قليلا دون إيصالات،
أن أحبّ امرأةً دون تصريحٍ من وزارة الهوى،
أن أتنفّسَ دون إذنٍ من الحاكم،
أن أموت كما أشاء:
واقفا، ساخرا، أو تحت المطر.
لكنّي أعرف القوانين:
حتى الموت يحتاج إلى توقيع.
(4)
في الليل،
حين أنامُ على جنبي الأيسر،
أشعرُ بأن قلبي يتهرّب من الضرائب،
يقفز خارج الصدر،
يركضُ في الشوارع عاريا،
يضحك مثل مجنونٍ اكتشف للتو
أن الحياة لم تكن سوى وصلٍ ناقصٍ في دفترٍ حكومي.
فأمدّ يدي وأعيده إلى مكانه،
وأقول له:
اصبر يا رفيقي،
نحن مواطنان صالحان،
سندفع غدا أيضا
حتى آخر نبضة.
(5)
في التحقيق الأخير،
جلستُ أمام الحياة،
تسألني ببرود موظّفٍ قديم:
لماذا تنفستَ أكثر من حصتك من الهواء؟
لماذا أحببتَ بلا إذن؟
لماذا كتبتَ شعرا دون تصريح رسميّ؟
فأجبتها:
لأنني نسيتُ أن الحياة ليست أمًّا،
بل جابي ضرائبٍ يرتدي ابتسامة.
رفعت محضرها وقالت:
الحكم: يُدفن هذا المواطن في أرشيف الغبار،
ويُسجّل موته كمصروفٍ ثانويّ
في ميزانية الله.
(6)
وها أنا الآن،
في الجهة الأخرى من الوعي،
أحمل قلبي مثل إيصالٍ قديم،
أقدّمه للحياة كلّ صباح،
فتبتسم وتقول:
ما زلتَ مدينا ببعض الدمع يا مواطن.
فأجيبها بابتسامةٍ ملتفةٍ حول عنقي:
خذيه كله إذًا،
فقد سددتُ ضرائبي للحياة،
وبقيَ فقط أن أسترد
نَفَسي الأخير.







