رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب :المثقف وجنون الحشود

ــــــ لأننا فشلنا في تكوين إنسان يفكر لم يتكون لدينا شعب، بل تشكل لدينا جمهور، جمهور مصفق، وجمهور لاعن ،يصفق مرة، ويلعن مرة لكنه لا يفكر.” * إميل سيوران.
منذ احتلال العراق تعرض مفهوم “الشعب” للتصدع والطرق والثغرات والسحق والتمزق حتى توقف بعد سنوات ولم يعد هناك في العراق ولا في دول عربية تعرضت للعواصف نفسها، مفهوم” الشعب” في تطبيق حرفي للسياسة الاستعمارية القديمة في التفريق للسيطرة بل حل مفهوم الحشود المتناقضة المنقسمة.
ليس مفهوم الشعب تعرض للتمزق فحسب بل كل المفاهيم الجوهرية كالحرية والعدالة والارض والوحدة الوطنية والهوية والتاريخ ولا يمكن حكم شعب دون أن ينسى ثقافته وتاريخه وبناء ثقافة وتاريخ جديد له.
بكل وضوح لم نعد شعباً كما في الماضي متفقاً في الأقل على ثوابت كوحدة الأرض والثروة والسيادة والاستقلال السياسي في القرار والمصير وفي اختيار النظام السياسي وغيرها من العوامل التي تربط الشعب.
في الحملة الانتخابية الأخيرة ظهرت شعارات تعكس هذا التشرذم بصورة مخزية وشعارات عن عودة بغداد أو الموصل أو كركوك أو الحق الى أهله كما لو أننا في نظام اقطاعيات مسروقة وكانت نتائج هذه الحملة الطائفية الغبية عكس المتوقع من هؤلاء الحمقى وهو تمسك الأطراف الأخرى بهويتها حد التشبث وقلب الطاولة. شعوبنا تضع الولاء والعقيدة أهم من قصة التنمية والديمقراطية والمستقبل.
هذا هو قانون الطبيعة والتاريخ: كل عاصفة اقتلاع وتهديد تقود الى تشبث بالجذور.
في مجتمعاتنا اذا أصاب الوهم شخصاً يسمى المجنون وإذا أصاب جماعة يسمى عقيدة بتعبير الروائي روبرت بيرسون. كل جنون الحشود مبرر وهي ترفع رايات وصور الرموز والصراخ ومستعدة للقتال في الشوارع والقتل لكن هذا يظهر في غير حقيقته: يظهر كولاء وعقيدة ومبادئ. الحشود طاعة عمياء وولاء والولاء يعني عدم التفكير كما قال جورج أورويل.
في بعض لحظات التاريخ تقع الشعوب الخارجة من قهر طويل في ما يسمى” الأوهام الشعبية الاستثنائية وجنون الحشود” عنوان كتاب تشارلز ماكاي ونشر عام 1841 ولا يزال حتى اليوم مرجعا في السياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع والنفس‎.
وجنون الحشود ليس حكراً على عامة الناس فحسب بل تقع فيه نخب أهل القلم والثقافة وتندفع خلف الأوهام الشعبية والسرديات الشفوية بلا فحص لدوافع مختلفة كما حدث قبل الاحتلال عندما رفع حوالي 350 من الكتاب والشعراء والروائيين والسياسيين برقية الى جورج بوش وتوني بلير تطالب باحتلال العراق في سابقة لم تحدث في التاريخ ولن تحدث ثم بعد الاحتلال وفي برقية ثانية الى الاثنين تشكرهما على الاحتلال وتم حذف قائمة الموقعين من كل المنابر لأنها فضيحة خاصة وان الناس في العراق لا تعرف بذلك وكانوا في قطيعة اعلامية مع الخارج بسبب نظام متوحش مغلق. لكننا نحتفظ بالقائمة وسبق لنا نشرها هنا كوثيقة وشهادة على أحداث منسية ونحن لا نوثق.
عندما عاد هؤلاء الى العراق ركبّوا قصصا ملفقة عن خصومهم في مجتمع في مرحلة تحول وعواصف ودوامة ولا فرصة للسؤال والبحث والتيقن ويستطيع أي نصاب وأحمق خلق قصة معقدة محيرة من حكاية واضحة جداً وكما قال ألبرت آينشتاين:
” “يستطيع أي أحمقٍ جَعل الأشياء تبدو أكبر وأعقد، لكنك تحتاج إلى عبقري شجاع لجعلها تبدو عكس ذلك”.
آراء الناس ليست معيارا للخطأ والصواب والكثرة ليست دليل الحق وشخص واحد قد يسبق أمة كاملة في قول الحقيقة ، لكن في مجتمع تقليدي يكون الاحتكام الى عامة الناس (باللاتينية:Argumentum ad Populum) كقياس هو السائد وهذه طبيعة مجتمعات التشابه والتناسخ والتطابق في كل شيء. المثقف خاصة ضد كل الأوصياء.
عند العودة الى العراق استغل هؤلاء جهل الناس بما حدث وظهروا كملائكة في مواجهة شياطين وأطباء نفس في مواجهة مرضى وآلهة في مواجهة خطاة ما دامت الوثائق غائبة ولا أحد يفحص أو يدقق وحيث الوشايات أهم من الوثائق في مجتمع بلا ثقافة قانونية عن دليل وشهود ووثيقة ومحكمة وقرار وكراسي وغيرها من قواعد العدالة الموجودة في محاكم الغربان والنمل. العدالة هي الشرف بأعمق معنى وغيابها غياب جوهري للشرف.
واجب ودور المثقف في لحظات المنعطف لا مع دكتاتور أرعن ولا مع احتلال كمشروع نهب بل دوره فضح المشروعين واستشراف اليوم التالي للاحتلال وليس ايقاف حرب مقررة وجاهزة.
قصة المتعاونين مع الاحتلال مستمرة حتى اليوم في النرويج دولة ما بعد الحداثة والليبرالية المتطرفة في الحقوق الفردية وفي فرنسا صدر “الكتاب الأسود” الذي يضم أسماء هؤلاء وقاد البير كامو حملة عقاب هؤلاء وكان كامو رئيس تحرير صحيفة الكامبا الكفاح للمقاومة السرية الفرنسية ولم يكشف عن اسم رئيس التحرير إلا عشية تحرير باريس في مقال صدم النخبة الفرنسية لأن كامو منعزل بعنوان:” باريس تطلق الليلة آخر رصاصاتها”. بهذه الطريقة يتم خلق التقاليد الوطنية وخلق المصدات والروادع.
لكن الحشود لا تعرف ماذا سيحدث في اليوم التالي لان الزمن تجمد عند لحظة واحدة هي الحاضر، وعدوى العواطف يتحول الى قرارات وتصورات عن مستقبل وهم وتدفع العدوى الجماعية الجمهور نحو خيارات لا يعرف عنها شيئاً ليكتشف يوما ان المسافة بين الواقع وبين الخيال مسافة بين شاطئ وآخر وتبدأ من جديد لعبة جديدة.
وكان المفكر والروائي فرانز فانون منذ أوائل الثلاثينات قد حذر من ان الشعوب الخارجة من قهر طويل ، يجب أن تنعطف، حالاً، نحن بناء مؤسسات الديمقراطية، وعكس ذلك ستتجه نحو الفاشية وستعيد انتاج نظام جلادها للتعويض عن عار معتق واذلال طويل،
وذهبت تحذيرات فانون ادراج الرياح وكانت النتيجة: ولادة النازية والفاشية وكلاهما قدما مشروعهما كانقاذ ومخلص لكنه انتهى بالخراب والدمار.
الغريق لا يهمه من المنقذ لحظة الغرق سواء كان دولفينا او قرصانا او كاهنا او سفاحا بل تهمه فكرة الانقاذ ،
لكن سؤال الغريق السياسي مختلف: ماذا بعد الانقاذ؟
وهو ليس سؤال الحشود المستنزفة لانها غارقة في أوهام وأحلام وكوابيس الماضي لكنه سؤال المثقف، وقد قدم لنا التاريخ امثلة لا حصر لها عن ايام ما بعد الغرق.
ان يندفع الناس نحو هذا النوع من الجنون المبرر ، أمر مفهوم ، لكن أن يندفع مثقفون خلف الحشود بلا صورة واضحة عن المستقبل ولا كشف التعقيد المركب للاعصار ، فهي خاصية معروفة في المثقف العربي، الذي لم يحدث مرة واحدة ان اخبرنا عن صورة مستقبل لانه اما مؤدلج او يسقط رغباته على واقع جديد لا يتطابق مع الحقيقة او يفكر من منطقة الجرح.
لا تعثر على هذه” الاحتفالية” لدى المثقف الغربي الذي يضع كل التوقعات والمخاوف والهواجس عن وعي عميق بطبيعة الازمة وتعدد الاطراف والمصالح والنوايا الخفية التي كجبل الجليد لا يظهر منه غير الرأس.
باستثناء المثقف العربي الذي يتحدث عن اعصار سياسي عصف بالمنطقة بلغة وثوقية جازمة حازمة مع ان لغة السياسة لغة احتمالات،
كما لو انه يتحدث عن طبخة عشاء او برنامج سهرة قادم او حفل موسيقي:
من أين تأتي الثقة لهؤلاء ؟ من أين يأتي هذا” الايمان” بأن اللغة هي الواقع؟
الثورة حسب التوصيف الدقيق لـــ حنة أرندت في كتابها” الثورة” تفرق بين العصيان المسلح والاضراب والاعتصام والانتفاضة وبين الثورة:
” ” إن الثورة تعني ان مسار التاريخ قد بدأ من جديد فجأة، وبأن قصة جديدة تماماً، قصة لم تروَ سابقاً ولم تعرف قط، هي على وشك الولادة”.
القلوب الغليظة الفظة لا تصنع ثورة أبداً بل تذهب للإنتقام وهو:
” الخطأ الفادح الذي ارتكبه ثوار الباستيل في الثورة الفرنسية في أنهم يفتقرون الى الحب” بتعبير تولستوي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى