د. فيروز الولي تكتب :”وطن يراقب نفسه… ولا يرى نفسه!”

في اليمن، لم يعد السؤال: من يبني الدولة؟
بل صار السؤال الأكثر رواجاً: من يراقب مَن؟
فالمجتمع تحوّل—بفعل الإدارات المتعاقبة—من شعب يريد المستقبل، إلى شبكة ضخمة من العسس؛ كل واحد يراقب الثاني، وكل ثاني يكتب تقريراً عن الثالث، وكل ثالث ينتظر مكافأة من نظامٍ لا يعرف أصلاً ماذا يفعل بنفسه.
أولاً: التحليل النفسي — مجتمع يعيش “عُقْدة العسس”
الفرد اليمني صار يعيش في حالة تأهّب دائم، ليس لحماية الوطن، بل لحماية نفسه من مواطن آخر!
صار الناس يخافون من الهمس، من الضحك، من السؤال، من التفكير…
كأن المجتمع يعيش متلازمة المراقب الوهمي: كل شخص يعتقد أن هناك شخصاً آخر يتعقبه، بينما لا أحد فعلياً لديه وقت يبني مدرسة، أو يُصلح اقتصاداً، أو يعمّر دولة.
وعندما يتحوّل الخوف إلى أسلوب حياة… تختفي المبادرة، ويُعدم الإبداع، ويُسجن العقل قبل الجسد.
ثانياً: اجتماعياً — حين ينهار النسيج لصالح “تجارة الوشايات”
في الدول الطبيعية، الروابط الاجتماعية تُبنى بالثقة.
أما هنا، فقد أصبحت الثقة كائن أسطوري… يُقال إنه كان يعيش بين اليمنيين قبل عقود.
اليوم، يكفي شخصاً أن يقول عنك: “سمعته يتكلم” ليتحوّل كلامه إلى وثيقة وطنية.
الأب يخاف من ابنه، والمدير يخاف من الموظف، والجيران يخافون من بعضهم، والدولة تخاف من ظلها…
هي مجتمعات تبني الأسوار بدلاً من الجسور.
ثالثاً: ثقافياً — العسس أهم من المبدعين
بدلاً من:
كاتب
فنان
مخطط
باحث
أستاذ
أو حتى محلل بسيط…
أصبحت الوظيفة الثقافية الأكثر طلباً:
“شخص يعرف كيف يكتب تقرير بسرعة دون أخطاء إملائية.”
وهكذا تحوّلت الثقافة إلى فوضى، والتعليم إلى شهادة ورقية، والفن إلى إعلان رسمي، والمعرفة إلى فخّ… من يفكر كثيراً يُتهم، ومن لا يفكر أبداً يُكرم.
رابعاً: اقتصادياً — اقتصاد العسس أقوى من اقتصاد الدولة
من الطبيعي أن ينهار الاقتصاد عندما تتحوّل الوظائف من: بناء → مراقبة
تنمية → تتبع
إصلاح → وشاية
وصلنا إلى مرحلة حيث “تقرير صغير” قد يحقق لصاحبه مكافأة، بينما مشروع صغير يعاقب صاحبه على الطموح.
بينما العالم يصنع ذكاءً اصطناعياً، نحن نصنع ذكاءً عسسياً:
يراقب، يشك، يرفع، يوشي… ولا يضيف ريالاً واحداً إلى الناتج المحلي.
خامساً: عسكرياً — القوة تحمي الكراسي… لا الوطن
العسس ليسوا فقط مدنيين.
المنطق توسّع حتى صارت بعض القوى العسكرية ترى الشعب تهديداً أكبر من الأعداء…
فالجيش الذي استنزف عقوداً في مراقبة الناس، نسي أن عمله الأساسي الدفاع عنهم.
صار العدو الأول هو:
المواطن الفضولي
قبل العدو الخارجي!
وحين يُصبح السلاح موجهاً نحو الداخل… فانتظر انهياراً لا يوقفه شيء.
سادساً: سياسياً — إدارات حكمت بالخوف… لأنها لا تعرف شيئاً غيره
كل إدارة يمنية متعاقبة جاءت ومعها شعار جديد… لكن جوهر الحُكم واحد:
إدارة تعتمد على العسس، لا على المؤسسات.
الأدهى أن كل سلطة ورثت من التي قبلها نفس الفكرة:
الخوف أهم من الكفاءة
الولاء أهم من التخطيط
التقارير أهم من الرؤية
والنتيجة؟
بلد يمشي بظهره، ويتساءل ليش تعثر!
سابعاً: دبلوماسياً — وجه الدولة “مرتبك”… لأن الداخل مرتبك
كيف تُقنع العالم أنك دولة مستقرة…
وأنت غير قادر على إقناع نفسك أنك مجتمع طبيعي؟
كيف تطلب الدعم والاحترام…
بينما أكثر ما تنتجه هو: قوائم مراقبة، ونشرات أمنية، وتقارير عن مواطنين يشكو
ن من الكهرباء!
الدبلوماسية انعكاس للداخل… والداخل فوضى، مفكك، خائف من نفسه.
الخلاصة — اليمن بلد يراقب اليمن!
يا سادة…
المشكلة ليست في نقص الثروات، ولا في غياب العقول، ولا في ضعف الإمكانيات.
المشكلة الحقيقية هي أننا أصبحنا مجتمعاً كاملاً شغال بنظام كاميرات بشرية.
أصبح العسس هم: البنية التحتية
والتنمية
والأمن
والثقافة
والاقتصاد
وحتى وسائل الترفيه!
ثم نتساءل:
ليش اليمن في خطر؟
يا أخي… لأننا استبدلنا العلماء بالعسس، والتنمية بالوشايات، والمستقبل بالخوف.
وبينما العالم يتقدم…
اليمن يسير وهو ينظر خلفه.
فمن الطبيعي جداً… أن يصطدم بكل شيء.







