كتاب وشعراء

القول الرمزي والفعل الصوفي من خلال المجموعة الشعرية (باب الذي لا يرى) للشاعر سعيف علي نموذجا بقلم الهادي عرجون

ما قبل القول:
“كلّما اتّسعت الرؤيا ضاقت العبارة”. (1)

وأنت تقرع الأبواب وتنظر من غبش الأيام علك ترى ما لا يرى، لتفصح عن الجمر الذي تخبئه بصدرك، وأنت تستنطق الكلمات على باب الشعر تنتظر الدخول ولا تنتظر، فأنت الشاعر الذي يرى ما لا يرى ليولد من رحم الصمت وقرع أبواب التصوف، أطياف شعرية في شكل أبواب تعكس الصورة الجديدة لقصيدة النثر وهي تخاط بين أصابع الشاعر سعيف علي كبردة الصوفي، ليلبسها ويجعل من نصه عميقا مرنا يجمع بين بساطة العبارة وعمق الرؤية، لنكتشف جوهر نصوص متفرّدة قائمة على الاختزال والغموض ترصد التفاصيل وتقتفي دقائق الأمور، بأسلوب مختلف يعبر عن رؤية مختلفة لدى الشاعر.
وقد أطل علينا الشاعر سعيف علي بمجموعته الشعرية التي اختار لها من العناوين (باب الذي لا يرى) عن دار “أبجديات للنشر والتوزيع” بتونس، وقد عنون نصوصه بأبواب إستلهمها من لازمة المتصوف العربي “النفري” “أوقفني في باب الـ…. وقال لي” وقد جاءت في صيغة عتبات نصية (باب على سيرة الذئب/ باب النِّفري/ باب الذي لا يُرى/ باب الضِّيق والسُّقوط/ باب الموارب) وقد كان يسبقها الراوي بعبارة ( باب ) و يمكن اعتبار هذه العتبات مهمة في مجال تحليل النص الشعري، لأنها تسعف الباحث، أو الناقد، أو المحلل، في فهم النص وتفسيره وتأويله، أو تفكيكه وتركيبه. والتي في النهاية هي التي تبين وتحدد العلاقة بين ( العنوان ومحتوى النص)، والتي يمكن اعتبارها علاقة جدلية قائمة على المساعدة في إنارة خبايا النص الداخلي لاستيعابه وتأويله، والإحاطة به من جميع الجوانب. ليقف الشاعر من خلال هذه المجموعة أمام أبواب رمزية تؤدي إلى عوالم شعرية مختلفة، والتي ضمّت بين طياتها 14 قصيدة، وقد جاءت في 180صفحة.
ولعل تقسيم المجموعة الشعرية (باب الذي لا يرى) إلى أبواب يجعل المجموعة الشعرية كمشروع فني هندسي سبق تخطيته لتكون هذه الأبواب بمثابة تبويبات لموضوعات القصائد المختلفة لتردنا هذه الأبواب إلى فناء من أفنية التصوف من خلال تجارب وجودية روحية تعتمد الحدس لا على الحس والعقل من خلال لغة الرمز والإشارة.
فأنت عندما تطرق أبواب سعيف علي توقفك العناوين، عتبات نصية ترسم جغرافية مرور القارئ عبر ثنايا النّصّ، ورمزية العناوين وهذه الأبواب هي محاولة جادة لإختراق الواقع وما وراء الواقع وصولا إلى الفكرة الصحيحة التي أرادها الشاعر في متن نصوصه، كما أنها تردنا إلى فناء من أفنية التصوف لا سيما وأن الشاعر اعتمد على إختزال المعنى في جملة أو عبارة موجزة، بأسلوب رمزي كثيف، وهو بذلك ينتهج منهج النفري ويذهب بمقولته حين يقول: ” كلّما اتّسعت الرؤيا ضاقت العبارة “.
أهمية التكرار في بناء النص الشعري:
فمنذ القراءة الأولى نلاحظ أن النص الشعري عند الشاعر ينبني على الخيال المغلف بالواقع وعلى التكرار و التشكيل الرمزي، وهو العامل الأولي في تصوير النص الشعري لدى الشاعر سعيف علي، فالتكرار يمكن أن يكون في العقل المتناهي لعملية الخلق الشعري يعايش الارادة الواعية. ويعد من الأسس الأسلوبية التي تعمل على التماثل في النص الشعري كما تساهم في تمتين وحدة النص وتماسكه بالإضافة إلى أنه مرتبط بالحالة النفسية للشاعر بشكل مباشر، وما يريد أن يبعثه من رسائل ومضامين فكرية.
حيث يسلط التكرار الضوء على نقطة حساسة في العبارة ويكشف عن اهتمام المتكلم بها، من خلال طرع عدد من القضايا الانسانية والوجودية مع تجسيد الذات الشاعرة التي لا تنفصل عن هذا العالم بكل ما فيه، يقول الدكتور صميم إلياس كريم: ” وتكمن شاعرية التكرار وقيمته الإيقاعية والدلالية بخاصة في أن مبدع النص/ الشاعر يحاول الاتكاء على تقنية التكرار أن يكشف لنا عن الأمور والأشياء والنوازع التي يعني بها أكثر من غيرها، فهي عباراته لأنه تشكل مرآة صادقة تعكس ما يخالج الشاعر ويعتري وجدانه “(1).
فالكتابة عنده تختلف عن اللجوء إلى البساطة والتوضيح بل تعتمد على مخيلتة على وجه الدقة من خلال التنويع والتطويع لمجموعة من الأفكار والآراء تتناسب مع مواضيع العصر لتكون مرحلة إلباس الفكرة وتجميلها في إطار الكلمات ذات المرامي ليظهر الفهم وتظهر الدقة في التعبير فالشعر لابد في النهاية من أن يكسى بالرمز و يجمل في إطار من الرمز الأدبي للتعبير عن خوالج النفس التي تعكس بكلماتها ومعانيها حالات وجودية.
حيث يعد أسلوب التكرار عند الشعراء ظاهرة فنيّة تحفيزية تزيد الخطاب جمالاً وائتلافاً نسقياً، كما تسعی إلی اثراء دلالات النص ومراميه التي يريد الشاعر إيصالها للمتلقي. كما يكشف عن انفعالات الشاعر وخلجاته النفسية، فالتكرار يرتبط عادة بالتأكيد من جانب، وبالإطناب من جانب آخر، وبذلك يكون اللفظ المكرَّر في النص هو المفتاح الذي يلقي الضوء على الصورة لتنكشف ألوانها و معانيها وذلك لاتصالها الوثيق بالوجدان.
1/ – رمزية الطفل و فعل التذكر والاستذكار:
إذ ابتدأ بتكرار الكلمة بنوعيها سواء كانت اسما أو فعلا، أو بتكرار العبارة، وهو ما يجعل إستخدام الكلمات المكرّرة يضفي على النصّ حلية إيقاعية ودلالات موحية. وقد ركّز شاعرنا علی تكرار بعض الكلمات دون غيرها، كتكرار عدد من الكلمات (الذاكرة/ الكتابة/ الكلام/ القول)، ويكون هذا التكرار ناتجاً عن أهمية هذه المفردة وأثرها في إيصال المعنى، حيث تكررت كلمة (الذكرى والذاكرة) حوالي 10 مرات ويظهر ذلك في قوله:
“أستمع أكثر مما قد أحدث الآخرين
عن الطفولة
عن الشباب
عن كل شيء يمسك دقة القلب من التسارع في الحماسة
عن أسراري التي تدعي أنني لم أذكرها لأحد قبلا
عن أسماء نسيتها
عن أسماء نسيتني
عن أسماء لقياها صدفة
عن اللقب الوحيد الذي يناسبني
أن أركض فقط في حجرة ذاكرتي الواسعة” (ص178).

فالشاعر سعيف علي كالطفل يمارس جوعه للكتابة ليعيش الذكرى ،فالإنسان عموما لا يمكن أن يعيش بدون ذاكرة والتي يمكن القول بأنها المشكل الرئيسي لمستقبل الإنسان عمليا واجتماعيا وابداعيا فهي بذلك تحدد واقع حياته المستقبلية.
لتصبح الذاكرة هي تلك الومضات الطفولية التي تجتاحه من حين لآخر لتخرج في شكل صور تذكارية سواء كانت تلك الذكريات الطفولية ذكريات سعيدة أم حزينة، فالطفولة هي مهد الأحلام والمنطلق نحو الأمل الذي يعيشه الإنسان والطفولة هي المخزون الأكثر التصاقا بذاكرة الإنسان. والمهد الأول لتجاربه الحياتية والتي طرحها شاعرنا:
” أتمشى حول لقب الكهل
وأقول ربما سيكون علي أن أدعي الحكمة
أن استمتع أكثر مما قد أحدث الآخرين
عن الطفولة
عن أول الشباب
عن كل شيء يمسك دقة القلب من التسارع في الحماسة
عن أسراري التي أدعي أنني لم أذكرها لأحد قبلا
عن اسماء نسيتها
عن اسماء نسيتني
عن اسماء لقيتها صدفة
عن اللقب الوحيد الذي كان يناسبني
أن أركض في حجرة ذاكرتي الواسعة “(ص178).
نعم حجرة الطفولة الواسعة، هي ذلك المستقبل، ذاكرة الإنسان الباحث عن إثبات الوجود، ذات الشاعر المتفرد الذي يبحث عنه بما أن التذكر و الستذكار هنا يلعب دورا هاما في التفاعل والتواصل فهو لا يكتفي بتذوق أحاسيس الماضي والعيش بمتعة فيها بل يستجيب لخيال الشاعر الذي أكسب النص كمالا وجمالا سعيا منه لولوج الحقيقة.

2/ – ملامح التكرار في شعر سعيف علي:
كما نلاحظ تكرار عدد من الثيمات الأخرى التي حاول من خلالها الشاعر بناء نصه عليها على الرغم أنه يلجأ في بعض الأحيان إلى الرمز والإشارات والإيحاءات، حيث تكررفعل (قال) بمختلف اشتقاقاته الصرفية حوالي 41 مرة، ليظهر أن الكلام فعل قول، ففي البَدْء “قال الله”، والكلام قول، يقول الشاعر (ص 37):
“أقول كفى
ثم أقبل على ارتشاف قهوة مرة
فوق دكة مقهى قديم
لا أقول مع كل ذلك اكتفيت
فالارتواء نقصية كبرى كما قال أبي”
بالإضافة إلى تكرار ثيمة (الكلام) حوالي 25 مرة، لأن الكلام كما الكتابةُ فعل خَلْق وإبداع، فعل تجسيد لأصوات الحروف والمعاني، لتتجسد في شكل كلمات لها معاني ودلالات في شكل صور وأفكار مبانيها فن وجمال، وحضورها إبداع، يمس الحواس جميعا. “ففِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ” (إنجيل يوحنا 1:1)، فالكلام صوت الشاعر، والكلمات عنده معادلة رياضية تمتنع عن القسمة البسيطة في جداول الحساب وشكل هندسي يرفض التشكل، كما يجعل الجلوس كلاما واسعا في قوله:
“تمعن في الوقوف ثم خاطبني
لقد جعلت الجلوس كلاما واسعا
وأخبرني أن أمد يدي إلى تفاح الجنة”(ص 28).
حيث يعتبر تكرار الكلمة أو العبارة من أبرز الظواهر الفنية والأسلوبية التي اعتمدها الشعر الحديث والتي تبين لنا أبعادا دلالية وفنية تحفز المتلقي للنظر والبحث في دلالات القصيدة ومراميها، بالإضافة إلى أنه مرتبط بالحالة النفسية للشاعر بشكل مباشر ويظهر ذلك أيضا من خلال تكرار كلمات مثل (الكتابة/ أكتب/ كتب) بمختلف اشتقاقاتها حوالي 09 مرات، فالكتابة عند الشاعر فعل مقدس، كما أن الكتابة قول، ففي البدء إذا كانت الكتابة. والكتابة قراءة. “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ”،(سورة العلق الآية 1)، والكتابة مجال حياة، وفي العمل الأدبي هي صدق فني. والكاتب: كاتب وقارئ في آنٍ معا، يكتب لنفسه وللآخرين. قال فيكتور هوغو: “عندما أحدثكم عن نفسي أكون أحدثكم عن أنفسكم” فالشعر وعي في أقصى درجات اللا وعي، فعل مكاشفة ومساءلة للذات، ويظهر ذلك في قوله:
“كتبت حتى لا أضطر مرة أخرى
إلى إخفاء وجهي عن السؤال الدائم
عن حيرة الأقدام في اختراع الطريق
حتى لا تحاول الأقفال حل الطلسم
ذلك أنني طالما اجتزت الباب في غفلة
ودخلت الكلام دون وجه فادح
تلك طريقتي ونواسي في مربع المتوحدين” (ص 23)
والتي تأتي مرّة للتأكيد أولكشف اللبس، إضافة إلى ما تقوم به من إيقاع صوتي داخل النصّ الشعريّ وما يخلّفه من شحنات إيحائية وطاقات شعورية. إنها لحظة الولادة أو القبض على الأشعة الأولى لإشراقة المعنى الشعري قبل الدخول إلى فضاءات البناء والتكوين، حين يحتضن شغبها وجنونها، فالتجربة الشعرية تتشكل من حالة شعورية أو قل هي شحنة وجدانية تندفع بقوة لتنزف على البياض ويكون ميلاد الحرف حروف تتقاطر كزخات المطر، أو حين تسقط ندف الثلج على رسم الشتاء.
وليس الغاية من التكرار جعل القارئ في حيرة أمام المعنى المراد فهمه من الشاعر فأغلب القراءات والتأويلات يمكن أن تختلف أو ينصهر القارئ مع أفكار الشاعر فالنص حمال أوجه، والنص يولد مع كل قراءة وينمو كطفل صغير مع كل دراسة ليفتح أجنحة النص التي تجعل من الصراع بين الانسجام و التوتر الدلالي للمعاني همزة وصل بين الباث والمتقبل لينكشف ذاك الأفق الرحب بين أفق النص وأفق المتلقي للنص.
فتكرار كلمة (الأخطاء) حوالي 16 مرة في نصوص سعيف علي هو تكرار مقصود لتسليط الضوء على فكرة معينة أو للتأكيد عليها، فأخطاؤه ليست بحاجة إلى اسم، وشاعرنا قد كف عن تصديق نفسه تجنبا لوقوعه في طين أخطائه، ليكون الخطأ عبء الكتابة أثناء أدائها والحذر أثناء مخاض النص فهو جهد ومعاناة، كما أن النص الشعري يولد مع كل قراءة وينمو كطفل صغير لينكشف ذاك الأفق الرحب بين أفق النص و أفق المتلقي للنص.
“الأخطاء وجه
لذيذ تأتي كلماتي على وجه الخطأ
على وجه الخطأ يرفل الصواب في ثيابه مشمسة” (ص57-58).
مع العلم أن التكرار يعتبر من أهمّ الأدوات الجماليّة التي تساعد الشاعر علی تشكيل موقفه وتصويره، ولابدّ أن يركّز الشاعر في تكراره، كي لا يصبح التكرار مجرد حشو، فالشاعر إذا كرّر وألحّ فقد عكسَ للمتلقّي أهميّة ما يكرّره مع الإهتمام بما بعده. وذلك التكرار مقصود فهو يعتبر من أسلوب الشاعر في الكتابة، حيث يهدف إلى إبراز كلمة معينة أو إحداث تأثير معين على القارئ.
إنه تكرار فني، يستدعي التأويل، لاستكشاف المشاعر الدفينة وتبيين الدلالات الداخلية للنص كما يعد أحد المسالك المؤدية بالضرورة إلى إفراغ المشاعر، فالشاعر يسعي لتقديم نصوص جديدة، مدهشة وثرية، نصوص تضيف ولا تكرر، نصوص تنبع من نبع الخلق والانفتاح على العالم، والانشغال الدائم بالبحث والتأمل والإصغاء، وامتلاك المهارات التي تمكنه من اصطياد لحظات الفيض الشعري الباطني وهو ما يظهر قدرة الشاعر الفائقة على  إنشاء الصّور المباغتة المربكة التي لا تكاد يخلو منها أيّ مقطع من قصائده ” تتسع الأوطان أو تضيق على نحو يشبه أو لا يشبه الطلب من طفل أن يدخر تحت مخدته قطعة الحلوى أو أن تطلب من الريح ترك القصص الصفراء، والتلهي باحتساء الصوت فوق راية منسية لبناية ” (ص56(.
 القول الرمزي والفعل الصوفي:
لتطفو على سطح النص مجموعة من الإشارات و التلميحات والتي لا يمكن من خلالها اتهام الشاعر بالغموض فيها، ولكن في الآن نفسه يمكن القول أن الشاعر يبحث عن قارئ يصغي لنبض القصيدة، ومع هذا فلا يفهم كلامه إلا أولو الذوق ومن عرف الكلام بالتلميح أو التصريح فالإشارة لا تغنه عن العبارة سواء كان كلمة أو قولا، فهو لا يخفي أسرارا كالصوفي بل غايته البوح والتعبير بكل الوسائل لفك شفرات النص. يقول دي سوسور ” إن الكلمات إنما هي مجرد علامات أو إشارات للأشياء “.
فقد احتاج الشاعر إلى وسائل يعبر بها عن رفضه لواقعه الذي يراه مختلفا عما يراه لأسباب مختلفة سواء كانت سياسية أو اجتماعية وقد اختار هذا النهج لكي يستمر في رسالته ويحمي نفسه من هذا الواقع، كان لزاما عليه أن يتجه في نصوصه إلى الرمز و القناع، للتعبير عن رخباته وطموحاته وقد وجد في التجربة الصوفية خير طريق لهذا التعبير بالتلميح والايحاء، وعبقرية الكائنات والرمز.
مع العلم أن الوضوح في الشعر قد يؤدي أحيانا تعطيل فعل القراءة ولذة الدهشة والتواصل مع النص، أما الغموض والرمز فيحث القارئ على البحث وإعما العقل عند تصفح هذه المجموعة التي يعتمد فيها الشاعر على انفس الصوفي ليفضح اللغة بالكلام والخيال بالواقع يلبسها مشاعره يبثها في المتقبل والقارئ على حد السواء لتنساب الألفاظ انسيابا نحو عوالم أخرى صنعها الشاعر فحلقنا معها تحملنا المعاني إليها لا ننجذب إلا إليها، تلك هي نزعته الصوفية التي لأضاءت أبواب المجموعة الشعرية (باب الذي لا يرى).
ويمكن القول أخيرًا، إن الشعر الصوفي في جملته، شعر ذو ارتباط بالخيال والرمز، لأن جلّ ما قاله الصوفية مبني على أمور ذات علاقة بالجانب الروحاني والعرفاني، وبعيد كل البعد عن الخضوع للتأويل الحقيقي. ويتطلب بذلك إعادة قراءة هذا التراث من جانب بلاغي، لتقصّي وظيفة هذا الشعر في التعبير عن تاريخنا، لأنه إلى جانب ما يحمله من أمور روحانية، يزخر بكثير من المعطيات ذات الأبعاد السياسية والاجتماعية والتاريخية والثقافية.
فبين التصوف والشعر وشائج قربى فكلاهما يحيل إلى العاطفة والوجدان والغموض مع الشعور الكامل بالتحرر من كافة القيود التي يشعر بها الانسان، فعندما يصل الصوفي إلى درجة الفناء فالشاعر يصل إلى حالة الإلهام. وكلاهما الامساك بالحقيقة والوصول إلى جوهر الأشياء فالتجربة الصوفية تنشأ بعيدا عن الدين وليس بالضرورة أن تكون جزءا منه.
” فمن حيث المنبع تلتقي التجربتان في الرؤيا، التي تدفع صاحبها إلى استبطان العالم، ومن حيث الغاية فإنهما تلتقيان في خلق علم لا واقعي، عن طريق توحيد المتناقضات، أو توحيد ما يبدو متناقضا ” (2(.
” أنتظر أن يعتاد رأسي على الوسادة الجديدة
فكل أحلامي أصبحت صورا
مشوشة ومقلوبة منذ أن رميت الوسادة القديمة
في بئر رؤيا عابرة ” (ص78(.
فالوسيلة المعرفية لكل من الصوفي والشاعر هي القلب وخاصة في الشعر الحديث لذلك نجد أنه لا مكان للتفكير العقلي المجرد في الشعر الصوفي الحديث يقول محمد هدارة ” إن التأمل بالوجدان والقلب، وسيلة مهمة عند الشاعر و المتصوف على السواء ” (3).
” وأنا أدخل قلبي مرة أخرى
قلت ما أروع هذه الشجرة
ما أروع أن تأتي القصيدة بلا صوت
وأنا أدخل قلبي
تشهيت الجلوس في بهو قديم ” (ص 113(.
كما أن الشعر والتصوف يعتمد على القلب والرؤية التي يتفوق فيها الشاعر عن الصوفي كما يرى عز الدين اسماعيل إذ يقول ” ربما استطاع الصوفي أن يعبر عن رؤيته أحيانا، ولكن في مراحلها الأولى ولكنه عندما يوغل في الطريق يستعصي عليه أن يعبر عن هذه الرؤية…أما الشاعر فإنه يعبر بمجرد أن يرى، أي أن الرؤية وسيلة إلى التعبير، مهما أوغل في الرؤية “(4).
بالاضافة إلى أن الشاعر سعيف علي يخترع الصورة يشكلها من تراب الكلمات قبل أن تأتي إليه، فيستل المفردة من موقعها المعجمي ويمنحها وهجها الشعري المناسب لها. ليقرع أبواب التفرد حين تنسل الأحلام في غفلة من باب موصد حين يطل قلب الشاعر ورؤاه على الباب الذي لا يرى لينتبذ الشاعر ركنا قصيا يصطلي بحرقة الكتابة ليفتح أبواب الشعر “كثيرا ما كنت أصطلي بحرقه الكتابة، كالجسد المسفوح الذي ينتظر لفافات الطبيب ليضمد جروحا ‏غائرة بعيده. حاولت لسنوات أن أعود إلى الكتابة بعد أن أخذني الشغل إلى الهموم اليومية المتراكمة والالتزامات التي لم تكن تنته حتى رمتني أرضا، ولكم كنت أعرف إنها ستطرحني . ضلت الاختلاجات النفسية تفعل بي فعلا رهيبا، تعقد كل غريب الشعور وتصطفي كلاما معقودا ‏مركبا نائيا عن الكلام ونائيا عن الفهم أحيانا فاضطر للكتابة ملقيا الكلام على عواهنه  ليتسنى لي الرجوع إليه حينا آخر أعيد فيه الحياة”(5).
4/ – الخاتمة:
وفي الختام يمكن القول أن نصوص الشاعر سعيف علي تستدعي البحث والتأويل، من خلال التأثير الدرامي للشاعر أو من خلال استجابتنا نحن كقراء لهذه التأثيرات سلبيا أو إيجابيا، لنكتشف المشاعر الدفينة ونتبين الدلالات الداخلية للنص، لنطرق أبواب مجموعته المؤدية بالضرورة إلى التطرق لعدد من القضايا الانسانية مع إفراغ المشاعر في سياق شعوري حزين، أو سعيد. ليختار الشاعر من خلالها زمن التجوال والمرور بين فراغات النص وتعرجاته، ويقف عند زخرف القول، لتبزغ الهندسة الروحية التي تنكشف عن نص ثري حمال أوجه.
الشاعر سعيف علي حين يكتب قصيدة النثر يصطحب معه بعض أدوات الشعر الصوفي إن لم نقل جلها ليضيئ تلك الطريق التي أخطأت حظها وانتهت عند وجه مسافر واختفت في بردية الاسم الأخير الذي يطل في غمرة الغموض وهو يفتح أبواب الشعر ويدخل عتباته فيحدث ذلك التغير في حبكة النص و في البحث العميق عن عزلة تبقيه قريبا من الكلمات. شاعر يؤسس للغة والرؤى والدهشة، وليس ثمة غرابة أن كل شاعر يطرح تجربته الشعرية بنفس مغاير ومختلف عن الآخرين، ويطرح اشتغالا آخر ونسقا آخر للكتابة.

(1)صميم إلياس كريم: التكرار اللفظي و أنواعه و دلالاته قديما وحديثا (رسالة دكتوراه)ص138، جامعة بغداد كلية التربية ابن رشد،1988.
(2)منير خليل الخطيب: الأبعاد الصوفية في شعر أدونيس (رسالة ماجستير) جامعة اليرموك، 2000م، ص7.
(3)النزعة الصوفية في الشعر العربي الحديث، ص107.
(4)عز الدين اسماعيل، الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، دار الفكر العربي، الطبعة الثالثة، ص197.
(5)العودة إلى الأوراق المنسية… سعيف علي، نشرت بصحيفة المثقف الالكترونية  نشر بتاريخ: 11 كانون1/ديسمبر 2009.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى