غير مصنف

الكوكايين الذي اقتحم البيوت الموريتانية وأعاد تشكيل المجتمع../محمد بميجه : موريتانيا

الكوكايين الذي اقتحم البيوت الموريتانية وأعاد تشكيل المجتمع…!

لم تكن “الخيْمَة” الموريتانية يومًا مجرد مسكنٍ من وبر، بل كانت فضاءً اجتماعيًا حيا، تُنسج فيه العلاقات على أنغام “أزوان” وتُروى فيه قصص البطولة والشعر في مجالس السمر التي لا تنتهي إلا مع خيوط الفجر الأولى. كانت الحياة آنذاك تتمحور حول الجماعة، وتستمد زخمها من التفاعل الإنساني المباشر. أما اليوم، فقد نصبت “الخيام الرقمية” أوتادها في كل بيت، وأصبح لكل فرد مجلسه الافتراضي الخاص على شاشة هاتفه، يغوص فيه لساعات في عالم لا نهائي من مقاطع الفيديو القصيرة أو ما يعرف ب “الريلز”، في ظاهرة تستدعي وقفة تأمل سوسيولوجية عميقة لفهم تحولاتها الجذرية في بنية المجتمع الموريتاني.
لقد ارتفعت نسبة استخدام الإنترنت في مجتمعنا بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة ، ومع هذا الانتشار، برزت ظاهرة الاستهلاك المفرط للمحتوى الرقمي سريع الزوال، ليحل التمرير (Scrolling) السريع محل الجلسات الحوارية الطويلة، وتحل المؤثرات البصرية والصوتية الصاخبة محل هدوء القصص الشفهية التي كانت تشكل وعي الأجيال. هذا التحول ليس مجرد تغيير في وسائل الترفيه، بل هو إعادة تشكيل جذرية لنمط الحياة والقيم الاجتماعية.
لكن ما الذي يدفعنا إلى هذا الإدمان؟
إذا لفهم هذا الانجذاب الجارف نحو “الريلز”، لا بد من تفكيك الأبعاد الاجتماعية والنفسية التي تغذيه:
من منظور اجتماعي:
نلاحظ وجود تحولات ثقافية واقتصادية: حيث شهدت موريتانيا، كغيرها من الدول، تحولات متسارعة. فمع التمدن وتراجع أنماط الحياة التقليدية البدوية، نشأ فراغ اجتماعي لم تنجح البنى الحضرية الجديدة في ملئه دائمًا. و هنا بدأ المجتمع يتهيأ لمرحلة يغذيها الفراغ الناتج عن فتور الحياة التي تتنافى مع حياة ” الْخَيْمَة” ، ومن هنا قدمت وسائل التواصل الاجتماعي نفسها كبديل سهل ومتاح، فضاءً للهروب من واقع اقتصادي ضاغط وبطالة متفشية أحيانًا.
أيضا ضغط الأقران والبحث عن الانتماء: في مجتمع لا يزال يحتفظ ببعض قيمه القبلية والعشائرية، أصبح الانتماء إلى “التريند” العالمي شكلاً جديداً من أشكال الوجاهة الاجتماعية. فالشباب، على وجه الخصوص، يجدون في متابعة المحتوى الرائج ومشاركته وسيلة لتحقيق الحضور وإثبات الذات داخل دوائرهم الاجتماعية.

من منظور نفسي:
يمكننا تفسير هذه الظاهرة من خلال سطوة الدوبامين: حيث صُممت خوارزميات هذه المنصات بذكاء لتعمل على نظام المكافأة في الدماغ. بمعنى أن كل مقطع فيديو قصير ومثير هو جرعة سريعة من “الدوبامين”، هرمون السعادة، وهو ما يخلق حلقة إدمانية تجعل من الصعب التوقف عن التمرير بحثًا عن التحفيز التالي.
أيضا الخوف من فوات الشيء أو ما يعرف بظاهرةل (FOMO): والتي تعزز التدفق المستمر للأحداث والمحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي شعورًا بالقلق من أن “الآخرين يعيشون حياة أفضل”. وهو ما يُعرف بمتلازمة “الفومو” اختصاراً ل_ (Fear of Missing Out)، وهي حالة نفسية تدفع الفرد إلى البقاء متصلًا بشكل قهري خوفًا من تفويت أي جديد، مما يفاقم من القلق والتوتر.
كذلك حب التجديد أو ما يعرف ب (Novelty): حيث يميل الدماغ البشري بطبيعته إلى البحث عن كل ما هو جديد ومفاجئ. وبالتالي تقدم “الريلز” هذا التجديد المستمر في كل تمريرة، مما يبقي الدماغ في حالة تأهب وترقب دائمين، وهو ما يفسر صعوبة مقاومة جاذبيتها.
وكما يقول عالم الاجتماع الفرنسي جان بودريار: “نحن نعيش في عالم من المحاكاة، حيث تحل الصور والرموز محل الواقع الحقيقي”. وهذا بالضبط ما تفعله “الريلز”، إذ تقدم لنا واقعًا مُصطنعًا ومُفلترًا نستهلكه بشراهة.
وهذا ما يدفعنا للتساؤل عن الانعكاسات ؟!
إن الانغماس المفرط في عالم “الريلز” لا يمر دون تكلفة باهظة على الفرد والمجتمع:
أولا تراجع الإنتاجية وتشويش معرفي: حيث يؤدي الاستهلاك العشوائي لمحتوى غير مترابط إلى تشتيت الانتباه وإضعاف القدرة على التركيز العميق، وهي مهارات أساسية للتعلم والعمل المنتج.
كما يخلق حالة من “التشويش المعرفي”، حيث تختلط المعلومات التافهة بالمعلومات القيمة، مما يعيق تكوين رؤية نقدية ومنظمة للعالم.
ثانياً تآكل العلاقات الاجتماعية الواقعية: حيث أدى هذا الانعزال الرقمي إلى إضعاف الروابط الأسرية والمجتمعية التي كانت تمثل حجر الزاوية في المجتمع الموريتاني، وحل “التفاعل” الإلكتروني السطحي محل التواصل الإنساني الحقيقي.

ثالثاً الأزمات النفسية الصامتة:
لعل أخطر الانعكاسات يكمن في التأثير على الصحة النفسية. فالمقارنة المستمرة مع حياة الآخرين “المثالية” التي تُعرض على الشاشة تؤدي إلى تآكل الثقة بالنفس وتغذية مشاعر الحسد وعدم الرضا عن الذات.
وإذا رجعنا بالزمن للوراء قبل هذا الطوفان الرقمي، نجد أن “المجالس” كانت هي الفضاء العام الذي تتشكل فيه الآراء وتُحل فيه النزاعات وتُنقل عبره المعارف. كانت الأمسيات تُقضى في التجمعات العائلية واللقاءات مع الجيران، حيث يتعلم الصغير من الكبير ويقوى النسيج الاجتماعي. كان الروتين اليومي أكثر تنظيمًا، تتخلله أوقات للعمل وأخرى للراحة والتواصل الاجتماعي الحقيقي. أما اليوم، فقد اخترقت الشاشات هذا النظام، وأصبح الفرد يعيش في عزلة اختيارية، متصلًا بالعالم أجمع لكنه منفصل عمن يجاوره في الغرفة ذاتها.

وفي الأخير يبقى مستقبل مجتمعنا مرهون بقدرتنا على استعادة السيطرة على انتباهنا، والتأكد من أن التكنولوجيا تظل أداة في خدمتنا، لا سيدًا يستعبدنا في “خيمته” الرقمية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى