رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب :تشويه الأمكنة

ــــ اذا كنتم تمثلون المستقبل، فستكون جلودنا أحذية* روايتنا: “سنوات الحريق” الصادرة عام 2000.
كتب الشاعر أنسي الحاج” نهرب ونسمى منقذين، ونخون ونصبح أبطالاً.”
كان يدخل مقهى الأوبرا على البحر بشارب ثوري متهدل ودفتر كبير تحت الابط ويمسح المقهى بنظرة متعالية بحثاً عن ماريا نزيلة مصح عقلي بسبب الادمان على المخدرات،
وعندما أكون موجوداً يسألني دون أن ينظر إلي لأن هذه من أصول الهيبة الثورية عن ماريا وغالباً لا أجيب لأن كل ما فيه
من شوارب ودفتر وغطرسة يتناقض بل يشوه المكان واطلالة البحر وعفوية الزبائن والموسيقى كمهرج من قرون منقرضة.
الدفتر والشارب والنظرة المتعالية جزء من الهيبة كثياب الكاهن كعصا الجنرال،
الدفتر الحزبي سلطة وهو يقود قطيعا على شكل حزب
لأن دفتر الأسرار يعتبر تشوهاً في دولة ليبرالية يحق للمواطن فيها
الانتماء الى جميع الاحزاب في وقت واحد بلا فلسفات كبرى بل خطط تنمية
ولا شعارات النضال حتى اخر رجل مغفل ـــــــــــــــ لماذا ليس آخر إمرأة ؟ ـــــــــ بل برنامج تنمية لاربع سنوات عن الصحة والسكن ورعاية الامومة والطفولة والتعليم والبنى التحتية والخ.
من خلال تجربة مع هذه النماذج المعطوبة تكتشف أنهم يحاولون فرض قواعد المكان القديم على المكان النظيف الجديد للسيطرة، كما يفعل خنزير في حديقة مشرقة يحولها الى مستنقع لكي تنسجم معه
وهو ما فعلوه في الوطن عند العودة وحولوه الى زريبة ومغارة وحوش.
عندما تختلف مثلا مع نرويجي يقول لك بأدب جم:” فكرتك رائعة لكن دعنا نطورها” لا يقول خاطئة، وحين ينزعج من رأي أو وجهة نظر يقول:” لا أعتقد انك سعيد بهذه الفكرة” وحين يريد مغادرة المكان لا ينهض بسرعة لكي تشعر انك ثقيل عليه بل ينهض على مراحل، وعندما تتحدث معه في الماسنجر وتترك المحادثة بلا اشعار بالانصراف، قد يسامحك في المرة الأولى لكن في الثانية يحسم لأنه يعرف ان هذه عادة متأصلة وليست خطاًُ. لو كتب لك رسالة لم ترد عليها على طريقتنا في التجاهل، فلن تستلم منه رسالة ثانية ما لم تقدم توضيحاً لانه يعتبرها جزءاً من طريقتك في التجاهل. في حال شعر انك مغرور ومتغطرس يقول لك بلطف” من الصعب فهم ما تقول” أو” رأيك يحتاج الى أن أعيش تجربتك” ،
التي بلا شك تجربة سطحية لكنه يقولها بطريقة مخففة.
عندما تنتقل من عالم واضح ونظيف وقواعد صريحة في الحوار الى عالم الغموض والارتيابية واللغة الملتوية تشعر بتوعك. هو الفارق بين ثقافتين.
أحد هؤلاء قاد رفاقه الى السجن لانقاذ نفسه عام 1979 واعترف على شقيقه وأعدم الشقيق وخرج هو بصفقة ولجأ الى الحزب في الجبال وصار يكتب صفحات أنصارية عن الثورة المسلحة والانصار والنضال على طريقة المدرسة السوفيتية الادبية الشعاراتية الانشائية في مدح البلدوزر والشفل والابقار وصور الجداريات التي تم رميها في النفايات وعادوا الى الادب الروسي العظيم لتولستوي ودويستوفسكي وتورجنيف وتيشخوف.
الغموض والعمل السري يمنح هيبة لهذه النماذج لكنهم في دول العلنية والوضوح والشفافية والديمقراطية ينكشفون ويخرج المخبوء والمخفي لان الديمقراطية تعري وتفضح كما ان القمع يخفي ويستر. يشكل هؤلاء في المنافي تجمعات خاصة بهم معزولة عن المجتمع العام لفشل الاندماج مع ثقافة صريحة حية وقوانين واضحة وعلاقات عادلة بلا تراتبية.
أما هذا الرفيق فرؤيته بالشارب الثوري والدفتر والوقوف المتغطرس
تكفي لاجهاض عشر حوامل في مكان هادئ وجميل ومسالم وموسيقى
تسيل من الحيطان وبشر أسوياء كان يلوح كملصق بوليسي عن الرعب من مكان مخيف.
كان خارج المكان وخارج الزمان. مرة طفح به الكيل عندما لا أجيبه في المقهى فقال لي دون مناسبة واقفاً:
” ستصلنا عنك المعلومات”.
عندها تحولت الى وحش بشري وكدت أقلب المقهى
والكراسي والبحر وأبلع الزجاج:
” أغرب عن وجهي ألعن أبوك لا أبو المعلومات ومن يكتبها ولا أبو الحظ الأسود الذي رأيتك فيه هنا لا أبو الأحزاب جميعا من اليسار الى اليمين”.
يمكن ان تعيش مع جار عشرات السنوات دون أن يسأل من أنت
وما هي عقيدتك وكيف تفكر لأن هذا ممنوع قانوناً وثقافة وعرفاً.
لكن هؤلاء يحملون عاهاتهم معهم كما يحمل بدوي عقرباً قاتلاً في الخرج.
حكاية ستصل عنك المعلومات من قاموس الاحزاب ورجال الامن،
وعادة ما يتم حبس الشخص في ملف الى الأبد بناء على كلمة أو موقف ويعطى الملف رمزاً ويحفظ،
مع أن الانسان طاقة تحولات كل لحظة ومن الجريمة إختزاله في صفة واحدة أو موقف واحد.
العقل الاختزالي المتخلف. هؤلاء لقنوا مبكراً على الطاعة الحزبية وثقافة سياسية ملقنة وسطحية،
في حين كان الادب الانساني منقذا لنا مبكرا ً من الوقوع في هذا الفخ المميت رغم انه أدخلنا في صراعات قاسية مع الجميع في الوطن كما في المنفى.
ماريا لا تخرج من المصح إلا لتعود اليه، لأنها تعود للحثالة نفسه لتحطيمها لكي تنسجم معه.
مرة قالت لي ضاحكة:
” تعرف حمزة إن الدكتاتورية منقذة لنا نحن الحشاشات؟”
” لا، نوريني يا تحفة”
” قبل مجيء الفارين من القمع كانت مصحاتنا العقلية تعج بمدمنات المخدرات والعزلة والهجران، لكن مع موجات الفارين وفرتم للدولة أموالاً طائلة، انتم أبطال في السرير”.
طبعا، مدام ماريا، وأين نكون أبطالاً؟ أو في غرف الدخان والعرق المنزلي والمقاهي والحانات بعد أن حولنا المدن الاسكندنافية الجميلة الى نسخة طبق الأصل من مدن وعلاقات الرفاق ومعارات الشوارع الصبيانية وهذا عميل وذاك منحرف وهذا عليه علامة استفهام وهو في الرحم وذاك مشبوه، وفلان مريض نفسياً وفلتان يعاني من فوبيا والخ وهلم جرا. الجميع علماء في التحليل النفسي عن بعد بعد فشل القاموس والوصم السياسي لأن الأحمق يعرف كل شيء عن أي شيء ومستعد ان يقول لك من انت في حين تجهل مساحات فيك ويقول لك كيف تعيش ومع من وما هي حالتك النفسية وهو لا يعرفك لو جلست معه سنوات لكنها الخفة العقلية.
هذا الصنف يشوه أنظف الأمكنة لكي تتلاءم معه وكما يقول المثل البابلي:
” الثيران التي ولدت في الوحل، لا تعرف السباحة في مياه صافية”.
يجب خلق بيئة الوحل حتى في مكان نظيف ولكي يتم ذلك يجب استدعاء اللغة القديمة، لغة الشوارع، لأنها متجذرة في الوعي واللاوعي حتى في بيئة مختلفة.
المعركة في السرير مختلفة رغم انها تخاض باسلحة أخرى، لكن نوريني ماريا هل الرفيق يناضل جيداً؟”
ترجع للخلف غارقة في الضحك وتقول:
” ليس دائماً خاصة عندما يتذكر صدام حسين يصاب بالجمود والخصاء العقلي ”
قلت:
” الجمود والخصاء العقلي Castration Mintel موجود قبل ولادة صدام وبعده ، المهم لا يصاب بجمود آخر”.
” أنتم تسمون كل من يدافع عن حريته الشخصية وكرامته مناضلاً في حين لا يمكن التصفيق لكل عصفور يطير وشجرة تثمر وغيمة تمطر”
” بل نحن نعتبر كل من إختفى في جحر جبلي وهرب
من الحرب وكل من عاش مرفهاً في منفى مناضلاً وكل من اختبأ في تنور لإنقاذ حياته يوم كان الناس في العراق يتساقطون من الحروب والحصار والاوبئة والخوف”.
آخر مرة في مدينة بيرغن التقيت بماريا في الشارع، أقبلت ضاحكة مرحة خلاف العادة وسألتني عن الرفيق فقلت:
” عاد للعراق وحصل على راتب خدمة نضالية”
” عن أي نضال؟”
” عن السياحة فوق جسدك وتقطير العرق المنزلي والدفتر والشارب”.
” وأنتَ؟”
” أنا أعمل في الثقافة والسياسة قطاع خاص”.
ـــــــــــــــــــــ مقهى أوبرا Cafe Opera في مدينة بيرغن الساحلية في النرويج عالم خاص ومن الأمكنة الأثيرة عندي وكانت مسرحاً لبعض رواياتنا حيث تلتقي بأجناس من كل الانواع من فارين من الارهاب الى باعة مخدرات الى كتاب وشعراء الى رجال أمن هاربين من قارة أمريكا اللاتينية ، تعتبر مؤسسة ثقافية ونقطة التقاء في المدينة. أي العالم في مقهى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى