“سكوفيا” كمرآة للذات: فلسفة الانتماء إلى الأرض وتشكّل الوعي.قراء في ديوان “سيرة الولد الذاهل” للشاعر عماد فياض …بقلم د. طارق العريفي

ليس الانتماء إلى الأرض علاقة جغرافية تُقاس بالمسافات، إنها تجربةٌ وجودية تُقاس بعمق الندبة التي تتركها الأمكنةُ في الروح؛ فالإنسان، منذ اللحظة الأولى لوعيه، يبدأ في رسم خرائطه الداخلية؛ خرائط لا تُشبه تضاريس الهضاب والسهول والجبال، بقدر ما تُشبه ارتجافات القلب عندما يستعيد نسمةً مرَّت فوق حقلِ قمحٍ، أو صدى وقعِ الخطى بين كروم الزيتون، إن المكان لا يسكننا بوصفه فضاءً مادياً، إنّما بوصفه سؤالاً دائماً عن الزمن، كيف يمضي علينا؟، وكيف نمضي نحن عليه؟
في الفلسفة الوجودية، لا يُفهم المكان باعتباره إطاراً خارجياً؛ بل باعتباره جوهر التجربة الإنسانية؛ فالهضبةُ ليست ارتفاعاً صامتاً، إنّها ذاكرةٌ صاعدة، والسهولُ ليست امتداداً للتربة، إنما هي امتدادٌ لحنينٍ يتكرر كلما هبَّت رائحةُ الترابِ المُبْتَلِّ، إنَّ أشجاَر التوت، وسنابلَ القمح، وكرومَ الزيتون ليست نباتات فحسب، ولكنها شواهدُ على مرورنا في هذا العالم، إنّها علاماتٌ تجعل الذاكرة أكثر رسوخاً من الجسد نفسه.
وهكذا تتحوّل الأرض إلى سؤال وجودي يتجاوز حدود الطبيعة، من نحن دون أماكننا؟. وأيُّ زمن يمكن أن يُقاس خارج ظلّ الجبل أو انحناءة السهل؟. وكيف نُعرّف ذواتنا ما لم نجد في جذور الزيتون سبباً للبقاء، وفي ذرات القمح معنىً للعطاء؟.إن الإنسان لا يتخلّى عن أرضه بسهولة، لا لأنها ملكه، إنما لأنها قطعة من ذاكرته، ولأن فقدان المكان أشبه بفقدان فصلٍ كامل من قصة الحياة؛ لذلك يصبح التمسك بالأرض تمسكاً بالمعنى، وتمتلئ الذاكرة بتفاصيلها كأنّها تحاول أن تمنع الزمن من الانفلات؛. فالأرض وطنٌ، ومرآةُ الوجود التي يرى فيها الإنسان صورته الأولى، ويتأكد عبرها من أنه كان هنا… وأن شيئاً منه سيظل هنا مهما تغيّر العالم.
سكوفيا التي تتغلغلُ في خلايا الذاكرة والجسد فلا تفارق الإنسان مهما فارقها أو ابتعد عنها، ولا تزال عتباتها تُثير في النفس حالةَ الذهول الأولى لكلِّ روعةٍ ودهشةٍ وذهول؛ عتباتُ الكون، عتباتُ القمحِ والعشب والفصول، عتباتُ الشجر العالي، وأنهار المياه، ورعاةٌ يحلبون الغيم، ونساءٌ طافحاتٌ بانتشاء اللحظة الأولى، عتباتُ العشق والموت، ورجالُ يقلعون الصخر، وجبالٌ عاليات. يتجوَّلُ الولدُ الذاهل في أروقةِ ذاكرةِ “سكوفيا” القرية الحالمة، الوادعة، السليبة، المسلوبة في سفوح الجولان، المتناثرة في جبال عالية تكللت بالثلوج، وسهول واسعة امتلأت سنابلَ قمحٍ صفراءَ ذهبية، ومساحاتٌ خلّابة عرَّشت فيها كرومُ الزيتونُ وسالَ الزيتُ بخضرتها اليانعة، ليروي قصةَ عرقِ الآباء، رجالاً ونساء يعملون بالسخرة في شقِّ الطرق ورصفها ومعاناتهم في حقولهم، التي لولاهم لتحوَّلَ السهلُ إلى وعر. وتمرُّ الذكريات بأهل القرية؛ حيثُ الحاج رشيد وداره وزوجته فاطمة، وعريشه الذي يجذب الأولاد إليه، كلما دخلوا البستان للحصول على بعض المحاصيل. وكذلك صالح المطلق وقصة عشقه لزينب، تلك الفتاة التي اختفت في ظروفٍ غامضة، في مناورة إبداعية أدبية بين الأرض التي ضاعت وزينب التي اختفت، ولم تعد أكثر من رواية تروى. إلى بيت شمّا صانعةِ الخوابي؛ فقصة معصرة الزيتون وحصانِها الهرم المربوط إلى الطاحون منذ زمن الرومان، الذين حفروا آبار سكوفيا، ورمزية الأطفال الذين سقطوا في تلك الآبار. وإلى بيت سحبان الكريه قاطع الدرب الذي روع الناس، والذي كرهه “يا أبي أكره سحبان الكريه”. ومنه إلى صومعة الناسك فوق جرف الصخرة، الذي أحبَّه وتمناه، “بالله كم ينتابي الإحساس أني الناسك”. إلى قصصِ الغجر وترحالهم، وحكايا النساء غجريات، وبدويّاتٍ، وفلاحات، كأُهزوجةٍ جذلى بالحب الغامر. وتُطل المدرسة برأسها، وكذلك مئذنة الجامع العمري، وفي كلتيهما تتجسد رؤية الأرض السليبة حيث بحيرة طبريّه وبحر الجليل. وتبقى وصايا “الأمّ” في “سكوفيا” عالقةً في الذهن راسخةً في الفكر، حالُها حالُ تساؤلاتٍ كثيرة في عتباتِ سكوفيا حول الماء، والنبات، والصدى، والغابة، والسهول، والوديان، والأشجار العالية التي تغري بتسلقها، والجبال المكللة بالثلوج، وهي ذاتُها حالُ سهولِ القمح ووقتِ الحصاد وموسمِ قطافِ الزيتون في “كرم الحلابات” وبساتين “عين التينة” و”السويقطة” مع تبدلاتِ الغيم وتشكيلاته في السماء.
وكثيرةٌ هي القصائد التي أعرب فيها الشاعر عن انتمائه للأرض، وحبه لها، وتشبثه بترابها، وبذكرياتها، ومنها حديثُهُ عن والدهِ رمزِ وجوده، ورمز استمرار أجداده، في قصيدة ” هذا أبي”
النص: “هذا أبي عبدُ الغني على فرسٍ، على ريحٍ تكادُ تطير. أراهُ في طِينِ الحقولِ، وفي الكرومِ، أراهُ في الأعراسِ دَبّيكاً، وفي رأس المُظاهرة، وأبي حزين، أراهُ في صمْتِ النفسجِ، وانكسارِ القُبَّرة، أبتي: لو تجدُ السلامَ في ريشِ الحمام، وفي زَغَبِ الذُّرة، أبتي أنتَ الجنوبُ، جنوبُنا، لكنَّ حظَّك أنَّكَ على حدودِ الأرضِ ستَبقَى مُثقلا بالهمومِ، بالحزنِ النبيل، هو حظُّكَ يا أبي لن تجدَ السلامَ ولا السكينةَ في لونِ الزهور، لأنَّك دوماً على قلقٍ، على ريحٍ، كأنَّ أبوابَ الجحيمِ عليكَ… لكَ المحراثُ والكرباجُ والوجعُ المقيمُ، وأبي حزين. لماذا هذا الصَّفْنُ يا أبتي، يُحيِّرُني أنا أبتي الصمتُ الطويل.”.
يقدّم الشاعر في هذا القصيدة لوحةً إنسانية بالغة الوجدان، تتقاطع فيها صورة الأب العامل الكادح مع صورة الوطن المثقل بالأوجاع؛ فالقصيدة ليست رثاءً لرجل عاش معاناة السخرة وفَقْدَ الأرض؛ إنما هي رثاء لزمنٍ كاملٍ من الانكسار، وصرخة ابنٍ تتشظى روحه كلما رأى آثار الطين على كفيّ أبيه.
بدايةً، “هذا أبي عبدُ الغني على فرسٍ، على ريحٍ تكاد تطير»، يشرع الشاعر في رسم صورة مزدوجة للأب؛ فهو في الظاهر فارسٌ، وفي الجوهر إنسانٌ هشٌّ تحمله الريح؛ إن الجمع بين الفرس “رمز القوة” والريح “رمز التبدد” يُحيل إلى حالة وجودية متوترة يعيشها الأب هي قوةٌ خارجية، وقسوةُ حياةٍ تسلبه ثباته الداخلي، هذه المفارقة تشكّل النواة الشعورية للقصيدة. إنّ تكرار فعل “أراهُ” يرسم حركةً دائرية حول الأب، وكأن الشاعر يعيد اكتشافه في كل موضع من مواضع الألم والعمل،”في طين الحقول، في الكروم، في الأعراس دبّيكاً، في رأس المظاهرة”، هنا يتحول الأب إلى أيقونة جمعية؛ ليس فردًا إنّه تجسيدٌ لطبقة اجتماعية كاملة حملت الوطن على كتفيها دون أن تحصد إلا الشقاء، وحضوره في الأعراس كما في الشوارع والمظاهرات يدل على اتساع دائرة دوره الاجتماعي رغم ضيق حظوظه الفردية.
ويبلغ الألم ذروته حين يصفه الشاعر، “وأبي حزين”، إنَّ هذا التكرار لا يكتفي بتثبيت حالة الحزن، ولكنه يُضفي عليها بعدًا تراكمياً؛ فالأبُ لا يحزن لواقعة واحدة، إنَّ حزنّه لحياة كاملة تُروى بالوجع. ومن ثمَّ ينساب صوت الابن منادياً، “أبتي: لو تجد السلام في ريش الحمام، وفي زغب الذرة”، إن هذا التمني هو تعبير عن عجز الابن أمام قدر الأب؛ فهو يعرف أن السلام قد غادر حياة هذا الأب، وأن جماليات الطبيعة”الحمام ،والذرة…” لن تكون ملاذاً له؛ إن عالم الأب ليس عالم الطيور والزغب والراحة، إنّه عالم السخرة والكرباج التي قضاها في ظل دولةٍ تحتضنه وترعاه!!. ومن أجمل لحظات النص قول الشاعر”أبتي أنت الجنوب، جنوبنا”، إن الجنوب هنا ليس اتجاهاً جغرافياً؛ بل رمزٌ للكرامة الصبورة، وللأرض الفقيرة التي ظل أهلها على تخوم الهمّ رغم اتساع السماء، لكنَّ هذه الرمزية تنهار أمام الحقيقة القاسية، “على حدود الأرض ستبقى مثقلاً بالهموم”، فالأبُ محكومٌ بالحزن النبيل، ذلك الحزن الصامت الذي لا ينفجر صراخاً، إنّما ينزف في الداخل. ويعود الشاعر ليؤكد قَدَرَ الأب،”لك المحراث والكرباج والوجع المقيم”، هنا تنكشف المأساة الطبقية؛ فالمحراث رمز العمل، والكرباج رمز القهر، والوجع رمز المصير المحتوم؛ إن هذه الثلاثية تختصر مسيرة حياة الأب كاملة، عملٌ لا ينقطع، ظلمٌ لا يتوقف، وألمٌ يسكن الجسد والروح معاً. ثم يُختتَم النص بنداء يحمل وجعاً خفياً، “لماذا هذا الصفن يا أبتي… يحيُّرني أنا أبتي الصمتُ الطويل”، إن صمتَ الأب الذي هو صمت الأرض، وصمت الخيبة، وصمت العمر الضائع يُحاصر الابن ويورثه الحيرة، إن الشاعر هنا لا يبحث عن جواب وهو الذي طالما كان يلهج بالسؤال، ولكنه هنا يُسجّل مرارةَ غيابِ الصوت؛ فالصمتُ ليس غياباً للكلام فحسب؛ بل غياباً للرجاء.
تكمن قوة النص في قدرته على تحويل معاناة فردية إلى ألم جمعي، ورصد حياة كاملة من الكفاح دون ضجيج؛ الأب في القصيدة ليس مجرد عاملٍ في الحقول أو ضحية للسخرة؛ إنه رمز الإنسان العربي الذي عاش الحياة وهو “على قلقٍ، على ريحٍ”، مثقلاً بالواجبات، محرومًا من الثمار، صامتًا حتى النهاية. إنه نصُّ وجدانٍ صادق، يُبقي القارئ في مواجهة الحقيقة المُرَّة وهي أنَ “الحزن النبيل” هو ميراث الذين حملوا الوطن دون أن يحملهم أحد.
التناصُ في صوت الأرض وصمت الإنسان
فلسفة الأصوات العميقة في القصيدة
وإذ يتلاقى أبناء الأرض السليبة في نزوحهم، وهجرتهم، وفراقهم، وتشردهم، وحُزنهم ،وألمهم، فهم كذلك يتلاقون في التعبير عن مشاعرهم وأحاسيسهم بأشعارهم ضمنَ تناصٍ أدبيّ يعرض الألمَ ذاته، والحزنَ عينه؛ فهذه القصيدة تنقلنا وبكلِّ شفافية إلى قصيدة الشاعر محمود درويش “أبي يا أبي” حيث نجد نقاطَ تلاقٍ واضحة وعميقة بين هذا النصين، مع اختلاف التجربة والأسلوب.
النصان يلتقيان في محاور وجدانية وإنسانية عديدة؛ ففي كلا النصين الأب ليس شخصية عائلية فحسب إنما أيقونة للجيل المكافح؛ فدرويش يصوّر الأب رمزاً للأرض وللجذور، “أبي يا أبي… والبيتُ قنديلٌ ومئذنةٌ”، وعند فياض يتحول الأب من عامل في الطين إلى رمز الجنوب والوطن المكافح،”أبتي أنت الجنوب… جنوبنا”، ونقطة التلاقي في الأب الذي يصبح وطنًا مصغّرًا، وحاملاً هموم الأرض والتاريخ.
الشاعر محمود درويش يُظهر الأب في محنة العيش، حيث يعمل بصمت كي يقي عائلته القهر. والشاعر عماد فياض يعرض الأب في الطين والحقول والسخرة،”لك المحراث والكرباج والوجع المقيم” وهنا يلتقيان بأن كلاهما يقدّم الأب كعامل مُنهك، يعيش في دائرة الشقاء والجهد المديد.
من أبرز سمات نص درويش الحضور الطاغي لـ صمت الأب، “صمتُكَ يا أبي… يوجعني”، وفي النص الحالي تتكرر الصورة نفسها عند فياض، “أبي حزين… الصمت الطويل يحيرني”، والتلاقي هنا من خلال الصمت الذي يتحول إلى لغة الأب، لغة من لم يعد قادراً على الشكوى.
عند درويش، الأب متجذر بالأرض،”أبي… هواء الأرض، ياسمينها، وترابها”، ويرى فياض والده،”أراه في طين الحقول، في ريش الحمام، في زغب الذرة”، فالأبُ مرسوم من عناصر الطبيعة نفسها، حيث الأب والأرض والذاكرة العميقة.
في قصيدة “أبي يا أبي”، يظهر الأب محرومًا من أحلامه، “أبي ضيّعته الطرقات”، وفي قصيدة “هذا أبي”، “لن تجد السلام ولا السكينة في الزهور ..لأنَّك دوماً على قلقٍ على ريحٍ”، فكلاهما عاشا حياةً لا تُحقق ما يستحقان من كرامة وراحة. وحين يتألم الابن عند درويش مذهولاً من صبر أبيه ومن قَدَرِهِ العسير، فإنه كذلك يعيش الألم ذاته هنا”يحيّرني هذا الصفنُ يا أبتي”، فالابن في كلا النصين يقف عاجزًا أمام وجع الأب، ويرثُ عنه ألمًا غير مفهوم. ومنه إذ يظهر درويش أقرب إلى الشاعر الحالم المتصل بالأرض والحنين، فإنّ عماد فياض يظهر أكثر التصاقاً بالمعاناة المباشرة، والوجع، وضياع الأرض.
وهكذا، يبقى الإنسان مُعلّقًا بين سؤالين لا ينتهيان، سؤالُ المكان الذي شكّل ملامح روحه، وسؤال الزمن الذي يفتتها ببطء؛ فالأرضُ، بما تحمله من هضابٍ وجبال وحقول قمح وأشجار زيتون، ليست مجرد إطار خارج الذات؛ إنها الذاكرة العميقة التي يستمد منها الفرد معنى وجوده. وكلما ابتعدنا عنها، اشتدّ في داخلنا ذلك الحنين الذي لا يُفسَّر إلا بوصفه حركة مقاومة ضد النسيان. لذلك، فالتمسُّكُ بالأرض ضربٌ من التشبُّث بالهوية الأولى، ورفضٌ وجوديّ للتيه؛ فالمكان ليس نقطةً على خريطة، المكان هو الشكل الوحيد للطمأنينة الذي يبقى عندما يزولُ كلُّ شيء. ومع كلِّ ذكرى تعود من عمق الطين، أو ظلّ كرمة زيتون، نفهم أننا لا ننتمي إلى الأرض لأنها الوطن الذي عشناه، إنّما لأنها الذاكرة، والجذور، والمعنى، إنها السؤال الأكبر الذي نعود إليه كلما حاول العالم أن يُنسينا مَن نكون.— مع Khaled Alfayyad و
٦ آخرين
في هضبة الجولان السورية.







