رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب :أجيال ليلة الغلطة

يقول الروائي الروماني فيرجيل قسطنطين مؤلف الرواية الشهيرة: ” الساعة الخامسة والعشرون”: “أولئك الذين يعيشون على الهوامش، هوامش العالم، هوامش الحضارة، هوامش المجتمع، هم المخوّلون لرؤية الحقائق المُرّة للعالم”.
لماذا يرى الهامشي ومن على حافة المجتمع أوضح من غيره؟ لأنه بلا مصلحة والمصلحة حجاب ولأنه يرى بعيون ليست في رأسه بل في ضميره وحواسه.
قبل الاحتلال كان النظام منسجماً مع نفسه في الظاهر، وكان المجتمع منسجماً مع نفسه في الظاهر، المعارضة في الخارج من كل الأصناف كانت منسجمة مع شعاراتها، المثقفون أيضاً كانوا منسجمين مع ثنائية مبسطة:
الصراع بين سلطة ومجتمع، الرواية في الخارج لم تخرج عن دائرة شرح مساوئ السلطة،
كان التبسيط ظاهرة عامة في حين الواقع الحقيقي لم يكن كذلك أبداً، بل كان هذا سطح الواقع ومكره حين يختفي ويستعصي على الانشاء السياسي الباهت والمسطح المغرم بالثنائيات البدائية عن الصالح والطالح والابيض والاسود والسلبي والايجابي في عالم مركب وشديد التعقيد.
العقل الاختزالي تبسيطي ثنائي انتقائي يختزل المجتمع بحفنة حثالات من محيطه القريب ويعتبرهم معياراً للحقيقة وهذا القياس يمكن العثور عليه حتى بين حثالات الحانات الرخيصة عندما يختلف أحدهم مع آخر ينهض مهدداً مترنحاً ويقول:
” لو لا هذا المجتمع الشريف الجالس، لكان قتلتك”.
تصبح النجاة من القتل مجرد مصادفة، والمجتمع” الشريف” هم حثالات من صنفه اختزل بهم “كل” المجتمع وهذه العبارة نسمعها حتى من نخب الثقافة الظاهرة المتخلفة التي تعرف بالتعميم واختزال المجتمع بحفنة أراذل واختزال الفرد بموقف حقيقي أو متخيل ومحو حياة كاملة. العقل الاختزالي في النهاية عقل سلطة يؤرشف للناس كما يرغب ويختزلهم بأشرار وأخيار أو الأبيض والأسود لأن هذا أقصى ما يصله العقل الاختزالي.
يبدو أننا في نهار الاحتلال كمخلوقات كانت مختبئة في أنفاق مظلمة،
وصُدم الكل من الكل، وعثروا كالعادة على التفسير المبسط: ” لقد تغيرنا. كل شيء تغير أو مرحلة عبور نحو الديمقراطية والخ”.
لكن واقع الحال أننا لم نتغير، بل خرجنا من العتمة الى الضوء، ومن التحاشي الى العلن، ومن الأقنعة الى الوجوه الحقيقية ومن اللغة السرية الى العلنية ومن الضغائن الى السلاح:
إنتهى الحفل التنكري القديم، وبدأ التعرف على وجوه الحفل الحقيقية والويل على قول كافكا من يدخل هذا الحفل التنكري بوجهه الحقيقي ومن يدخله سيكون مصيره مصير جوزيف.ك. في روايته” المحاكمة” الذي يُعتقل دون أن يعرف السبب ويحاكم في محكمة بلا شهود ولا أدلة ويعدم دون أن يعرف لماذا وعبارته الاخيرة” مثل كلب” قالها بصوت خافت وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة.
والآن، هل نحن في نهاية حفل أم بداية آخر وعوالم سفلية جديدة ؟
خلال الحملة على اليسار والمثقفين المستقلين والشيوعيين ،
وجدت نفسي كالعادة مطلوباً دون أن اكون طرفاً في صراع أحزاب. كنت ساخطا على الجميع، كما اليوم، وطريد القريتين، لكن لا مجال للحياد في سلطة ومجتمع محارب.
في كل الأحوال أنت مطلوب في أية حملة دون أن تعرف السبب في نظام لا حياد فيه ، ولماذا يجب أن نعرف السبب اذا كانوا هم يعرفون؟
في السجن قلت برجاء لرجال الامن: ” هل يمكن أن أعرف السبب؟”
فاندلعت ضحكات ساخرة وقال أحدهم ضاحكاً:
” يريد أن يعرف السبب”.
كما لو طالبت بمعجزة لأن الانسان يصبح مُلكية عامة كرصيف أو مبولة لا علاقة لمصيره به ولان السؤال يضعك على قدم المساواة مع هؤلاء في مكان لا تطرح الضحية فيه اسئلة بل تجيب.
عثرت مصادفةً على مأوى ليلة واحدة في ضيافة راقصة في ملهى” ألف ليلة وليلة” في شارع السعدون أعرفها جيداً وهي هاربة منذ سنوات الى بغداد وغيرت الإسم والشكل وتعمل في هذا الملهى الليلي،
وكنت هارباً كالعادة بتهمة المشي على الرصيف الأيسر بتعبير شارلي شابلن،
وكنت قد تسرحت قبل أيام من الجيش بعد سبع سنوات في حرب الجبال،
تخيل المكافأة من الحرب الى المطاردة،
كما لو أنني شخصية ريتشارد كامبل في مسلسل الهارب الأمريكي المطلوب للعدالة وهو بريء.
الحوار الذي جرى بيننا بعد غلق الملهى والانطلاق بسيارتها في شوارع بغداد تحت المطر، وفي الشقة في الكرادة الشرقية هو نبوءة بأحداث كثيرة وقعت،
ومن تلك الليلة تيقنت أن الراقصات أكثر واقعية ومعلومات من وسائل الإعلام ومن أوهام المثقفين ومراكز الأبحاث نظراً لنوعية الزبائن وهم خليط من رجال أمن وضباط ومخابرات وقادة ومسؤولين ولكونهن في مواجهة الواقع بلا آيديولوجيا .
لا ننسى هنا أن راقصة كانت قد عرفت ساعة الصفر في الانقلاب على الزعيم عبد الكريم قاسم عن طريق ضابط عشيق متوله قبل ليلة واحدة من الانقلاب الدموي في الثامن من شباط 63،
في حين كُبس ” الثوريون” في سراويل النوم الى السجون والمشانق وغرف التعذيب من البيوت والمقاهي والحانات.
كما ان انقلاب تموز 1968 كاد أن يفشل لأن العقيد الركن سعدون غيدان آمر في الحرس الجمهوري للرئيس عبد الرحمن عارف كان متواطئاً مع الانقلابيين وتأخر عشر دقائق عن ساعة الصفر في الفجر لأنه كان يسهر في شقة عشيقة ونسي ساعة الصفر وتذكرها في آخر لحظة وهبط من السيارة مترنحاً كتاريخ يتشكل.
مصيرنا اللاحق وحتى اليوم ولد من ليلة حمراء في شقة عشيقة ونحن أجيال ليلة الغلطة. هذا هو تاريخ العراق أمس واليوم بلا تسلسل ولا منطق ولا سبب ولا نتيجة بل تحكمه الصدفة والحماقة والنزوة وعوامل لا عقلانية لذلك يصعب التكهن به ومعرفة مساره ومن يحاول تفسير الواقع واحتمالاته بلغة سياسية أو منطقية كمن يحاول تفسير الهراء بالمنطق.
ظهر ان” المثقف الثوري” الذي يشم الخطر على مبعدة أميال كما تقول الكراريس، لا يشم شيئاً لأنه ببغاء ملقن في قفص، والتلقين والتوقع أمران متناقضان.
سرديات المهمشين ومن يعيشون على الحافات لا يهتم بها المؤرخون ولا غيرهم مع انها تروي التاريخ المخفي غير المروي ـــ تاريخ القاع الأسفل وليس سطح الواقع المزور.
قالت في الشقة ضاحكةً:
” تساوينا”.
قلت بتسليم العاجز والمضطر:
” تماماً، أنت هاربة من السلطة الاجتماعية، وأنا هارب من السلطة السياسية،
انت ترقصين في الملهى للإغواء، وأنا ارقص على الأرصفة من الخوف،
لم أعرف اسمك الجديد؟”
“صوفيا”
كان إسمها الأصلي أجمل لكني قلت:
” تشرفنا”.
شعرت كما لو أنني أحد شخوص نجيب محفوظ في بنسيون في رواية “ميرامار” وليس شخصاً حقيقياً، لكن ما هو الفارق تلك الايام بين الواقعي والمتخيل بعد أن تحولنا الى ظلال هاربة تبحث عن جدران؟
كنا في زمن كانت هناك بقايا قيم ومبادئ و”حدود” أخلاقية وطبيعية حتى عند راقصات الملاهي الهاربات. الصورة النمطية للانسان في الادب وفي الحياة لم تعد مقبولة لان الانسان منجم صفات وليس حتماً يكون الطبيب شريفاً والقاضي نزيهاً والمشرد سيئاً ، ومن يحبسون الناس في إطار لا يعرفون غير السطح الظاهر.
هذا ما حذر منه ستاندال في رواية ” صومعة بورما” ومخاطر التنميط Stereotype أو حبس الانسان في خانات وصفات محددة وغالباً متخيلة،
ومن المعروف عن المرحوم المفكر أدوارد سعيد اهتمامه بالغجر والسود والمشردين والهنود الحمر والمنفيين او من يعيشون على الحافات،
حافات المدن وحافات التاريخ والواقع وحافات العدالة.
أمام إنهيار اليوم وزمن الأقنعة ، أتساءل مرات: ما الذي جعلها لا توشي بي؟
الثقة والأمان والكلمة والوعد كما أن الخطر والمعاناة والألم يخلق هوية مشتركة بين البشر المختلفين كركاب سفينة تغرق أو عمارة تحترق:
كلانا إحتفظ بسر الآخر وعرفاناً بالجميل لم أبح بإسمها يوما وإيواء هارب في ذلك الزمان يكلف حياةً وكانت تضحية بلا مقابل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى