حين تصير الكتابة الإبداعية..مرادفة للألم….بقلم محمد المحسن

-أنكتبُ لأنفسنا أم للآخرين؟ أندافعُ بكتاباتنا عن بؤسِ العالم وبؤس الوطن أم أنَّ الأمر برمته لا يعدو كونه تسريبات لمعركة النفس الداخلية؟ (الكاتب)
-“أنا أتألمُ..بينما أنتم تَمدحونَ كتاباتي..!”..(فراتس كافكا)
-«إن دور الكاتب لا يخلو من المهام الصعبة.ولا يستطيع أن يضع نفسه اليوم في خدمة أولئك الذين يصنعون التاريخ،فهو في خدمة أولئك الذين يعانون من التاريخ.» (ألبير كامو )
“إذا لم تكن لديك رغبة في القراءة،فأنت لم تحصل على الكتاب الصحيح”
هكذا تقول الكاتبة البريطانية ج.ك.رولينغ،وكأنها ترمي على أن الكُتاب ينبغي عليهم درس نفسية القارئ..
وأنا أقول :
سنظل نكتب بحضور الفكر والضمير أيضا،وسنظل كذلك على استعداد للشهادة من أجل ما نعتقد أنه الحق.ورغم-أنهم-حرموا علينا حتى حق الإستشهاد،واحتكروا لأنفسهم “بطولة الرأي الواحد” التي سنبقى نرفضها..ولو لم نجد غير أظفارنا،وجدران المقابر أدوات للكتابة والنشر..
قد لا أجانب الصواب إذا قلت أنّ إن الكتابة تسكن الكاتب،فتصبح وجوده الذي يتحرك،وكيانه الذي يتماهى،فيغدو الكاتب مفتونا بالكتابة مهووسا بها. وحينما يعمد إلى الكتابة فإنه يجد متعة ولذة منقطعتي النظير،لا يحس بهما غيره،وذلك لأن ما يكتبه ليس شيئا منفصلا عن ذاته وكيانه،بل إن ما يكتبه متصل بذاته الإنسانية،وبعواطفه،وبمشاعره وأحاسيسه،بمعنى أن الكتابة تشكل بالنسبة للكاتب الكل في الكل،فهي ليست فقط وسيلته لمحاكاة الواقع والأحاسيس،ولكنها أيضا غايته المنشودة وهدفه الأسمى.ومن ثمة فهناك قوة دفينة ومحرك لا مرئي يدفع الكاتب نحو بحر الكتابة،ألا وهو الشغف والحب والهوس بالكتابة.
وهنا أضيف:
إن الكاتب يحرص دوما على مراعاة الجانب الجمالي في كتاباته،وهذا الجانب الجمالي يتحقق بمجموعة من العناصر والخصيصات،على رأسها الفكرة،فالنص أو الكتاب أو المقال لا يمكن أن يجذب القارئ إلا إذا كان ذا فكرة هادفة،والكاتب البارع هو الذي يتناول الأفكار الهادفة ويعرضها في يسر وسهولة،لأنها الأساس الذي لا يستقيم النص إلا بوجوده وتواجده،وكل نص لا ينطوي على فكرة هادفة يكون مصيره الهجر والنسيان.
والأسئلة التي تنبت على حواشي الواقع :
أنكتبُ لأنفسنا أم للآخرين؟ أندافعُ بكتاباتنا عن بؤسِ العالم وبؤس الوطن أم أنَّ الأمر برمته لا يعدو كونه تسريبات لمعركة النفس الداخلية؟
ترى أيستحقُ العالم من الأساس أن يُفني أحدهم العمر من أجل الكتابة عنه وعن بؤسه اللامتناهي؟
أيستحق العالم كتابات ماركيز وبن نبي ودستوفيسكي وبيجوفيتش وكامو وكونديرا وغيرهم؟!
أقرأ العالم يوماً صفحة واحدة مما كتبوه بعقل الواعي المتدبر الباحث عن الحقيقة وعن التغيير؟!
ولماذا نكتب من الأساس إذا كان وقع الواقع ووطأته أكبر من حجم كلماتنا؟!
وما وسعُ اللغة أن تفعله أمام سيلٍ من تدفقات الحياة اليومية التي لا تنتهي إلا بنهايتنا..؟
تبدو هذه الأسئلة سرمدية للوهلة الأولى،ولا إجابات لها،على الأقل في أفقنا الفلسفي والمعرفي حالياً،وأن ما يقدم بشأنها من إجابات لا يتخطى الرؤى الشخصية التي تعبر عن تجارب شعورية ذاتية مع الكتابة.لكن وبنظرة متفحصة لهذه الأسئلة،فإننا نجدها لا تخرج عن سؤال واحد، مكون من كلمتين: لماذا نكتب؟!
وما يأتي من سطور لا يعدو كونه محاولة متواضعة لتقديم رؤية شخصية لسؤال: لماذا نكتب؟ رغم اعترافي الصادق بصعوبة هذه المهمة، وربما استحالتها.
وهنا أذكّر القارئ الكريم بما قاله ديستوفيسكي في كتابه المراهق : “إن شفيعي الوحيد في ما أفعله الآن هو أن الذي يحدوني إلى الكتابة ليس ما يحدو إليها سائر الناس،إنني لا أكتب بغية الحصول على إعجاب القارئ و مديحه،إنما تدفعني لذلك حاجة داخلية،واستخراج ما تنطوي عليه نفسي من الأمور المعيبة و الوضيعة “.
فديستوفيسكي يجد في الكتابة تنفيساً عن معاناته الداخلية،وصراعه الداخلي،وهذا هو دور الكتابة وفق تصوره..
قبل ستة عقود كتب ألبير كامو “إن دور الكاتب لا يخلو من المهام الصعبة.ولا يستطيع أن يضع نفسه اليوم في خدمة أولئك الذين يصنعون التاريخ،فهو في خدمة أولئك الذين يعانون من التاريخ.”
يرى كامو في الكتابة ليس فقط مواساة لحظية أو شخصية لمن يعانون في لحظة ما،بل إنه يرى فيها مواساة للتاريخ،تاريخ المهمشين والضعفاء،تصبح الكتابة هنا صوت من لا صوت له،صوت لأولئك الذين عانوا ويعانون من سويداء قلوبهم ولم يسمع بهم أحد.الكتابة بهذا التصور هى صوت المنسيين.ضحايا التاريخ الذي لا يحترم إلا الأقوياء.
ويذكر سيد قطب أيضاً في الظلال “إن كلماتنا ستبقى ميتةً لا حراك فيها هامدةً أعراساً من الشموع ،فإذا متنا من أجلها انتفضت و عاشت بين الأحياء،كل كلمة قد عاشت كانت قد اقتاتت قلب إنسان حي فعاشت بين الأحياء،والأحياء لا يتبنون الأموات “.
وهنا لا تستمد الكتابة بهائها فقط من كونها وليدة لحالة من المعاناة،بل إنها تستمد قوة وتأثيراً من كونها سبباً في معاناة صاحبها،فمن يضحي من أجل ما يكتب لا ينساه التاريخ ولا الذاكرة..
وهنا يطرَح السؤال التالي الذي ورد على لسان الدالاي لاما:
هل على الإنسان أن يكون حزيناً أو مرهقاً أو محبطاً كي يترجم معاناته على شكل إبداع معين؟ أم أن السعادة هي التي تعطي الطاقة اللازمة للإبداع؟
في محاضرة ألقاها بجامعة إيموري بولاية جورجيا في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2010،تحدث الدالاي لاما وهو القائد الديني الأعلى للبوذيين التيبتيين،عن رحلة الإبداع والروحانية ومدى علاقتها بالحالة النفسية،فهل على الإنسان أن يكون حزيناً أو مرهقاً أو محبطاً كي يترجم معاناته على شكل إبداع معين؟ أم أن السعادة هي التي تعطي الطاقة اللازمة للإبداع؟
ووفق اقتباس تنقله الكاتبة شارون سالزبرغ عن الدالاي لاما،فإنه يعتبر بأن “الناس في الغرب يميلون عموماً للاعتقاد بأن الإبداع يتولّد من العذاب،في حين تسود اعتقادات مخالفة في الشرق حول علاقة الفن العظيم بدرجة التوازن والوعي داخل الإنسان”
وهنا يتوضح التمايز بين مفهومين مختلفين سائدين فعلاً في عالمنا: فهناك أشخاص يتشبثون بالتعاسة والمعاناة اعتقاداً بأنها ميزة تتيح لهم الإبداع أكثر،وبأن السعادة مجرد إحساس ممل لا يحفّز على الإنتاج؛وآخرون يميلون للتفكير بأن السعادة والراحة هما مصدر الطاقة والعطاء والإبداع،فالإحباط لا يترك أي مجال للتعبير والعمل على إحداث أي تغيير مهما كان بسيطاً.
*حين تولد الكتابة من رحم الألم:
يرى البعض أن الكتابة تراجيديا،لا يميزها عن تراجيديا صاحبها “شيء”،بالنظر إلى طبيعة شخصيته ومزاجه وفلسفته في الحياة.
الكتابة تصير مرادفة للألم،هنا،مادامت تطابق شخصية مؤلفها،بما يسكنها من قلق (وجودي)، ورفض وتمرد وتوق إلى المغامرة والمخاطرة (بالنفس حتى).
الكتابة تضحى،بصيغة مجازية.والنموذج الأوضح-في تقديري-هو أبو العلاء المعري،الذي يصعب على الدارس التمييز بين سيرة شخصه وسيرة قصيدته.وتبدو “داليته”* في رثاء أبي حمزة،أكثر تعبيرا عن شخصيته،وسوء ظنه بالإنسان والحياة عامة..
“غيرُ مجدٍ في ملّتي واعتقادي
نوح باكٍ ولا ترنم شاد
وشبيهٌ صوت النعيّ
إذا قِيـس بصوت البشير في كلّ ناد
أبَكَت تلكم الحمامة
أم غـنّت على فِرْعِ غُصنٍها الميّاد”
وإذن؟
لن يكون مستغربا إذا بعد كل ما ذكرنا أنّ نقرر أن أدب المعاناة وحده من يبقي،وتحفظه دفاتر التاريخ،وذاكرة الأمم.
ولنسأل أنفسنا أي الأدبين بقي،أدب حكي عن معمار الأندلس وجمال حدائقها،أم أدب حكي تاريخ المأساة، محاكم التفتيش وغربة الأندلسي الأخير قبل سقوط غرناطة؟
ختاماً،التصور السابق للمعاناة كمحرك أساسي للكتابة،لا يعني بالضرورة أنّ المعاناة هي السبب الأوحد الذي يدفعنا للكتابة،وأنه لا توجد أسباب أخرى نكتب من أجلها.
فللكتابة أسباب مختلفة،وللكُتابِ هيئات وأحوال شتى يكتبون فيها،فمنهم من يكتب عند الفرح، وعند السعادة،منهم من يكتب على صوت الموسيقى وغيرها من الهيئات.
لكن ما أريد أن أوضحه وأقرره في هذا المجال.أن تلك الكتابة التي تنبع من رحم المعاناة هي الأجدر على البقاء،وأجدر على أن يتلقاها القارئ بقلبه قبل أن يعيها بعقله.
وأخيرا،الكُتاب هم أكثر الناس عرضة للإكتئاب،فالكاتب يعيش القصة في لحظة التفكير،وأثناء الكتابة،ووقت المراجعة.
الكاتب يلجأ إلى الكتابة ليفرغ ما يحزنه،غير أن لا شيء يحزنه سوى الكتابة،فيستمر في نهجها وكأنه يداوي الداء بالداء”.
ولكن..
الوصول لحالة من الإبداع،مهما كان مجاله،يتطلب توافر العديد من الظروف الذاتية والموضوعية،أولها الموهبة الحقيقية التي لا مناص من تواجدها،ومن ثم الفرص المواتية للتطور والعمل،والبيئة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية المستقرة،وظروف الحياة التي تبعث على الاطمئنان والراحة.
ولن يكون مستغربا بعد كل ما ذكرنا أنّ نقرر أن أدب المعاناة وحده من يبقي،وتحفظه دفاتر التاريخ،وذاكرة الأمم.ولنسأل أنفسنا أي الأدبين بقي،أدب حكي عن معمار الأندلس وجمال حدائقها،أم أدب حكي تاريخ المأساة، محاكم التفتيش وغربة الأندلسي الأخير قبل سقوط غرناطة؟
على سبيل الخاتمة :
الأدبُ-في تقديري-يكتسبُ قيمَتهُ من حيثِ كونه انعكاس،مرآة مُقعرة أو مُحدبة تقدمُ صوراً مُنبعجةً عن المجتمعِ بحيثُ يبدو المُنتج الإبداعي شكلاً جديدةً،لكنه في النهايةِ صور المجتمع نفسه،وهذا يطرح ضمنياً شكلاً وظيفياً أدائياً للأدب،ويعني أيضاً أن محركاته تبدأُ من الخارج أي من المُحيط الاجتماعي وقضاياه،إلى الداخل،الذات المبدعة،لتتم معالجته ابداعياً ثم خروجه بصوره الإبداعية النهائية،والنظر إلى الأدب في نطاق مناهج النقد الاجتماعيّة،يعني أن المعاناة والألم اللذان يحركان الإبداع هما بالضرورة المُتصلان بقضايا المجتمع،وهو بذلك ألم طبقات العمال التي تكدحُ في المناجم والمحاجر لدى الماركسيّة وكتابها،لذلك أعادت روايات جورج أورويل وجوروج أمادوا و ميلان كونديرا،وحيدر حيدر وغيرهم الكثيرين،تقديمه من جديد بطرائقٍ مُختلفة،وهو تبعاً لذلك صوت المُجتمع الّذي يناضل من أجل وجوده وحريته كما هو الحال في أدبِ الشعوب المُستعمرة أو التي مازالت ترزح تحتَ الإحتلال على غرار الشعب الفلسطيني.
ختاماً،التصور السابق للمعاناة كمحرك أساسي للكتابة،لا يعني بالضرورة أنّ المعاناة هي السبب الأوحد الذي يدفعنا للكتابة،وأنه لا توجد أسباب أخرى نكتب من أجلها.فللكتابة أسباب مختلفة،وللكُتابِ هيئات وأحوال شتى يكتبون فيها،فمنهم من يكتب عند الفرح،وعند السعادة، منهم من يكتب على صوت الموسيقى وغيرها من الهيئات.
لكن ما أريد أن أوضحه وأقرره في هذا المجال.أن تلك الكتابة التي تنبع من رحم المعاناة هي الأجدر على البقاء،وأجدر على أن يتلقاها القارئ بقلبه قبل أن يعيها بعقله.
محمد المحسن
*دالية أبي العلاء المعري ليست مجرد قصيدة،بل هي بيان فلسفي وشهادة إنسانية على رؤية مفكر عظيم للحياة.إنها مرآة تعكس روحاً متمردة على السطحية،عاجزة عن تغيير قسوة الواقع،لكنها ترفض أن تنحني له،فاختارت العزلة والفكر سلاحاً والصبر درعاً.قراءتها ليست للاستمتال فحسب،بل للتأمل والوقوف على أغوار النفس البشرية.
من أشهر أبياتها الذي يمثل جوهر فلسفته:
وَهْوَ الْيَسِيرُ لِمَنْ أَتَى بِمَضَمَّضَةٍ
مِنَ الْمَنَايَا وَرَاحَ بِالْغُرْفَانِ
لَيْسَ الْجَلِيلُ مِنَ الْأُمُورِ بِكَائِنٍ
إِلَّا يُصَيِّرُهُ الزَّمَانُ إِلَى هَوَنِ
(والموت أمر سهل على من جاءت عليه المنايا وذهب بالجرعات الكثيرة، فليس هناك أمر عظيم إلا ويحوله الزمن إلى شيء تافه).
هذا،وسُميت “الدالية” لأنها قافية على حرف الدال من أولها إلى آخرها.وهذا ما يُعرف في الشعر بـ “اللفظية” أو “الموشحة”،حيث يلتزم الشاعر بقافية واحدة طوال القصيدة،وهو أسلوب يظهر براعة الشاعر وصعوبته.







