جملة أخيرة لا تشبه الوداع…..بقلم محب خيري الجمال

(1)
في المرة التي سأجلس فيها أمام نافذتي
وأرى انعكاسي يرتجف كجنديٍ ضلَّ ساحته،
سأعرف أنّ الزمن أخيرًا
قرر أن يضع يده على كتفي
ويقول لي:
لقد تأخرتَ كثيرًا عن بقية العالم.
ليس خوفًا من النهاية،
ولا رغبةً في أن أختبئ في جيب أحد،
ولكن لأنّني أدركتُ فجأة
أن الحياة تُشبه مقعدًا خشبيًا
جلس عليه كثيرون قبلي،
وتركوا عليه آثار ظهورهم
ولم يعودوا ليمسحوها.
لا تنتظريني عند مفترق الليل
بالوردة التي تذبل قبل أن تنطقي اسمي؛
وإن مررتِ من هناك يومًا
فارمي نظرةً سريعة
كأنكِ تتفقدين طقس مدينة
لا تنوين البقاء فيها.
صدقيني.
كل الأشياء التي أحببناها
تتعلم في النهاية أن تمشي بدوننا.
(2)
دعينا قبل أن يتهشم هذا الصدر
من كثرة ما حمل
نخرج في رحلة بلا وجهة،
نترك الهواتف في درجٍ معتم
ونمشي على الطريق الترابي
كأننا نعيد اختراع الأرض.
قد نعثر على بيتٍ مهجور
بلا أبواب، بلا أحد، بلا أي ذاكرة،
ندخله بلا استئذان
ونجلس على أرضه الباردة،
ثم تبدئين أنتِ
بالحديث عن أمرٍ ليس له علاقة بي:
عن أشخاصٍ لا أعرفهم،
عن شجاراتٍ صغيرة في العمل،
عن أحلامٍ غريبة رأيتها ليلة البارحة،
بينما أنا،
أراقب خطوط الضوء على الجدار
وأتساءل بصدق:
هل يمكن للإنسان أن يشفى تمامًا
من فكرة أنه كان يومًا مُهمًّا في حياة أحد؟
(3)
لنجرب شيئًا مختلفًا:
نستيقظ قبل أن يفتح الصبح عينه،
نضع الماء على النار،
ونتركه يغلي حتى يبدو كأنه يصرخ
طلبًا للحياة.
أصب القهوة في كوبين،
وأجلس قبالتك
دون أن أنطق بشيء،
ودون أن تطلبي تفسيرًا
للمرارة الزائدة في مذاقها؛
فالمرارة لا تحتاج شرحًا،
إنها أكثر الأشياء صدقًا في هذا العالم.
(4)
أتعرفين؟
أفكر دائمًا
أنه لو كان للحزن جسدٌ صلب
لكان مدينة كاملة،
بشوارع ضيقة
وجسورٍ معلقة
ونوافذٍ مظلمة
يشعل سكانها الضوء فقط
عندما لا يراهم أحد.
ولو كان للفرح صوت
لكان موسيقى
لا تُعزف إلا مرة واحدة
في عمر كل إنسان،
ومن لا يسمعها
يظل بقية عمره
يبحث عن لحنٍ يشبهها
ولا يجده.
(5)
جرّبي أن تفردي كفيكِ نحوي
كما لو أنكِ تستدعين عاصفة،
وأنا سأقف أمامك
كمن يتلقى قضاءً يعرف أنه مكتوب باسمه.
إن أردتِ
مزقي الخرائط التي خبأتها لسنوات،
واسحبي مني الطريق
كما تُسحب السجادة من تحت قدمي راقصٍ عجوز،
فلستُ هنا
كي أفتّش عن مخرجٍ آمن،
أنا هنا
كي أرى كيف يبدو الإنسان
حين يتصالح مع سقوطه.
(6)
وحين ينتهي كل شيء،
وحين تبتعدين كما يبتعد ظلٌّ
منسحبًا إلى زاويةٍ بعيدة،
لا تحملي عني شيئًا:
لا ذكرياتي،
لا صوري القديمة،
ولا تلك الجمل التي قلتها لكِ وأغلقتُها بنصف ابتسامة.
اتركي كل ذلك
على الطاولة التي مرّ عليها الغبار،
فالأوقات التي أحببناها
تحتاج أن تصدق أنها
انتهت فعلًا،
لا أن تُحمل معنا في حقائب
أثقل من أرواحنا.
(7)
وفي اللحظة التي أقرر فيها
أن أكتب آخر جملةٍ في حياتي،
لن تكون وداعًا،
ولن تكون ندمًا،
بل ستكون جملة
أُتلفظ بها كما يتنفس غريقٌ
أول نفسٍ بعد نجاته:
لقد عشتُ بما يكفي
لأعرف أن الإنسان
لا يرحل عندما يموت
بل عندما يُفهم.







