حمزه الحسن يكتب : الكاتب والمشعوذ

ـــ الخطأ الفادح الذي ارتكبته البشرية هو الايمان باللغة ـــ نيتشه.
هناك فكرة سائدة في ان الشعوذة القديمة من اختصاص السحرة والكهنة والمنجمين في حين يمارس كثير من الكتاب الشعوذة عن طريق الايمان بسحر اللغة وتحويلها الى مقدس والايمان ان اللغة واقع وليست كمقاربة واحتمال وتوقع.
كلاهما الساحر والكاتب المؤمن بقدسية اللغة يمارسان نفس لعبة الشعوذة: التحكم في الواقع من خلال اللغة. المشعوذ يستعمل اللغة للسيطرة على الارواح الشريرة في حين يستخدم الكاتب اللغة للسيطرة على عقول الناس من خلال جعل الواقع المتخيل كحقيقة. المشعود يصنع تعويذة والكاتب الذي يؤمن بقدسية اللغة يصنع أوهاماً من خلال التلاعب بالكلمات.
هل يجب الصمت والتخلي عن الكتابة؟ لا، أبداً، بل التخلي عن تحويل الكلمات الى يقينيات مطلقة وتحويل اللغة الى اداة هيمنة بطرق التفافية ملتوية والايمان المطلق باللغة مع انها اقتراب ومحاولة وافق للبحث. اليقين في اللغة فقط في العناوين وفي كلمات شواهد القبور وفي تعليمات السجون وليس في البحث والشك والسؤال.
عندما تتحول الكلمات الى قوة تصبح الحقيقة في القوة لا في قوة الحقيقة. مسلح واحد او نصاب يستطيع ان يفرض واقعاً يعجز عنه فلاسفة.
فكرة مذهلة طرحها الناقد البنيوي رولان بارت عن انتحار الشاب فيرتر في رواية” آلام فيرتر” لغوته في ان هذا الانتحار تم بسبب التعقيد اللغوي المركب في الرواية وليس بسبب عواطف محبطة.
لو ان بائع شلغم في ساحة الطيران أمام جدارية فائق حسن القى خطابا حرفيا للمرجع الاعلى لما اهتم به احد لأن سلطة الخطاب في حقيقة القوة لا في قوة الحقيقة. كذلك كانت قوة الخطاب النازي في قوات البانزار والغستابو وقوة نظام صدام حسين ليس في العقيدة ولا افكار عفلق التي لا تقنع قطاً أو بزوناً بل في نظام اجهزة متشابكة ومعقد ولا في خطابات صدام الانشائية السطحية التافهة التي تتحول الى نظرية عمل ومؤسسات.
كانوا قد علمونا في طفولتنا ان أحد الجيران لا تنزل كلمته من السماء لو رفعها ولو أراد لحولنا الى مسوخ بعبارة واحدة لكن مع الوقت تحول هو الى مسخ للسلطة كما تحولنا نحن. السلطة الجائرة تتعامل مع الناس كمزرعة للحيوانات ولم تكتف السلطة بمطاردة الافعال بل النوايا وحتى الاحلام لان احتلال الوعي لا يكفي بل اللاوعي أيضاً.
من منظور نيتشوي الكلمات ليست سوى استعارات وليست حقائق منطقية. المشكلة تكمن في أن الإنسان نسي أن الكلمات هي مجرد استعارات وتشبيهات، وصار يعتقد أنها تطابق الأشياء الحقيقية في الواقع.
ينتقد نيتشه بشدة تحويل الكلمات إلى “مفاهيم” بحيث تتحول المفاهيم الى مقبرة مقدسة.
اللغة، من خلال المفاهيم، تحذف الفروق الفردية الدقيقة وتخلق “قوالب” عامة. لذلك، اللغة بطبيعتها عاجزة عن نقل التجربة الفردية الفريدة، لأنها مصممة للتعميم. علينا التفريق بين اللغة الفردية وبين لغة القاموس:
القاموس لغة عامة مشتركة وهو يحمل قوانين وتراث وتقاليد وافكار السلطة السياسية والاجتماعية. الكتابة بالقاموس ليست خلقاً بل استعادة وتكراراً. الخلق والابداع يتم باللغة الفردية الذاتية لذلك تتعارض اللغة الذاتية مع لغة القاموس ومن هنا الصراع بين السلطة والمثقف، بين سرديات السلطة وسرديات الروائي. الصراع هنا على من يمسك سلطة اللغة. في الجوهر صراع على ملكية الحقيقة.
كمثال ظاهرة قطع اللسان في التاريخ العربي لان اللسان هو قاموس وعندما يخرج عن قواعد الكلام ويتكلم بلغة ذاتية يقطع او يسجن او يشرد او يُنفى.
القول ” لسانك حصانك ان صنته صانك وان هنته هانك” دعوة للالتزام بحرفية اللغة العامة ، لغة القاموس، والصمت عن الحقائق، أو تحمل منظومات عقابية كالقطع والسجن والنفي والخلع او النبذ والكراهية والتشهير كما تعرض نيتشه نفسه لكنه كان واثقا من نفسه.
تلتقي السلطة السياسية والسلطة الاجتماعية في موضوع واحد: قدسية القاموس لأنه تشريع وقانون وذاكرة عامة وعندما تفقد القاموس، تفقد هذه السلط سيطرتها. تزول التراتبية والفوارق الطبقية. اللغة بهذا المعنى اداة عنف واكراه وهيمنة ناعمة وخفية.
يرى نيتشه أن تراكيب اللغة (النحو) تخدعنا وتجبرنا على رؤية العالم بطريقة ميتافيزيقية خاطئة. بسبب “الإيمان بالنحو”، اخترع البشر الاوهام . قد يكون هو السبب في ان المفكر المرحوم هادي العلوي الخبير في اللغة لم يلتزم بقواعد النحو في الكتابة مما جعل البعض يبحثون عن اخطاء لغوية في كتبه لكن المفكر صادق جلال العظم في كتابه” ذهنية التحريم” أشار الى ان العلوي يتعمد خرق قواعد النحو. النحو اتفاق. النحو سلطة خفية. لكي ترى الاخر وتقيمه يجب ان تفعل ذلك بعبارات نحوية سليمة.
لماذا تغيرت لغات العالم في حين لم تتغير اللغة العربية في النحو والقواعد؟ هناك من لا يريد تغيير قواعد اللغة لان هذه القواعد تحافظ على التراتبية والطبقية والتمايز بين البشر. من يملك اللغة يملك السلطة.
اللغة هي التي خلقت الأوهام. كان الانسان البدائي يكتب ويرسم على جدران الكهوف للسيطرة على الواقع والحيوانات المفترسة وهي المهمة المستمرة حتى اليوم في الاعتقاد بقوة الكلمات وسحرها.
نحن نرى بعضنا من خلال لغة مقررة سلفا وتحيزات وأقاويل شفوية لا كما نحن في الواقع بل كما تم تخيلنا ومن هنا المسافة الهائلة بين الواقع وبين الكلمات. بين حقيقتك وبين تخيلك في لغة اخر. انت في هذا المنطق مجرد كائن يُرى من قواعد نحوية ولو تم النظر لك من قواعد نحوية وثقافية مختلفة ، لتغيرت النظرة اليك.
لا يرى نيتشة اللغة أداة للتواصل البريء، بل هي أداة لفرض السلطة وتثبيت “إرادة القوة”. كثير من قصائد الغزل في الشعر العربي في الجوهر مبنية للسيطرة الخفية على المحبوب والدليل هو الافراط في الاوصاف الجسدية وتجاهل كل ما هو روحي وثقافي واخلاقي. هذه المناحات الطويلة تخفي أكثر مما تظهر. الحب الحقيقي ألاّ تقول شيئاً.
هذه الفكرة ستتحول بعد موته الى فلسفة متكاملة علي يد فلاسفة الاختلاف كميشيل فوكو وجاك ديريدا وجيل دولوز وغيرهم ولم تنتقل للعالم العربي الذي اختزل مثقفوه وكتابه السلطة بالحكومة بسبب التلقين السياسي المستمر مع ان السلطة نهر تصب به روافد اجتماعية كثيرة وهي منتوج اجتماعي.
من يستعمل لغة يقينية جازمة حازمة في قضايا تتحمل الكثير من الاراء والافكار والمقاربات هو يمارس الشعوذة الانيقة في اطار صار مع الوقت مقبولاً لكنه شكل من اشكال الشعوذة والدجل. اللغة افق للخيال والتفكير.
من يملك حق “تسمية” الأشياء يملك السلطة عليها. هذا ما يفعله الساحر والمشعوذ عند كتابة التعويذة والرقية وهو ما يفعله الكاتب المؤمن بقدسية اللغة لا كحقل للبحث والسؤال بل كفرصة للسيطرة بقوة الكلمات.
الكاتب المشعوذ اختزالي يحبس الناس والمختلفين معه في خانات ويضع لهم كوداً للحفظ كملفات في مخزن بناء على صورة تخيلية رغبية ومغرم بثنائيات الابيض والاسود والسلبي والايجابي ويلغي كل المساحات الرمادية الهائلة في الانسان لانه عقلية مخبر ورجل أمن ويؤرشف للناس بدل واجب ملائكة الكتفين ولن يخرج هؤلاء من ملفاته الى الحياة ويعود لهم بعد سنوات كما يعود الى ملف لأنه هو نفسه تحول الى سجن متنقل لا يعيش في حياة بل في عقل مشوه يرى الحياة والناس من منظار العطب المغبر.
الكلمات هي تعبير عن رغبة الإنسان في السيطرة على الواقع المحيط به من خلال تحويل الكلمات الى قوة لكن قوة وهمية. بدل الذهاب الى مشعوذ لصنع تعويذة او رقية يمكن قراءة مقال لكاتب يكتب بلغة وثوقية جازمة للوصل الى النتيجة نفسها في الطمأنة الوهمية.
كثير من أهل القلم استغلوا ايمان الناس بسحرية اللغة في احداث انحرافات عميقة في نظرتهم لانفسهم وللحياة بل وصل الامر الى الموت دفاعا عن افكار اتضح انها خاطئة. كتاب الايديولوجيا مارسوا هذه الشعوذة الخطيرة عن ايمان بسحرية الخطاب الثوري وهو في الجوهر لا يختلف عن خطاب المشعوذ.
اللغة بهذا المعنى تخدم القطيع لأنها تجعل التجارب مشتركة ومبتذلة، مما يساعد على البقاء ولكنه يقتل الإبداع الفردي.
يجب أن ندرك أن اللغة خيال ، وليست حقيقة مطلقة. العلوم الحديثة في الفيزياء والكيمياء والجينات والفضاء وقيعان البحار والطب لا تستعمل اللغة في القبض على الحقائق بل تستعمل ادوات معرفية تجريبية.
دور المثقف الثوري كما يصنف نفسه وهو ببغاء في قفص، مالك الحقيقة والشرف والتاريخ وقاضي الارصفة المتنقل والمقاهي ، انتهى ودخل منافسون جدد كعلماء في كل الاختصاصات وبارت بضاعته بل تخلى عنه الناس وذهبوا للبحث عن المستقبل عند مشعوذ التعويذة والرقية وقارئ الكف بل تخلى عنه حزبه لانه لم يعد بحاجة الى مسوغ لمشروع لفشل المشروع نفسه لغة ودوراً ويحتاج الى المقاول والمتبرع والحليف والشركة بل المحتل الذي كان يشنع عليه سابقا.
الانسان الواعي يخلق قيمَه ولغتَه الخاصة، يرقص بالكلمات بدلاً من أن يسجد لها واذا لم تتوفر الكلمات يتحدث بلغة الجسد كما رقص زوربا كازنتزاكي لأنه وجد اللغة كأقفاص لا تستوعب جمال الحياة العنيف وكما قال للراوي:” عندما يمتلئ قلبي، ينغلق فمي”.
وهو ما فعله الشاعر أمرؤ القيس عندما ضاقت به العبارة، فكسر ميزان الشعر واخترع وزنا في قصيدة “تعلق قلبي طفلة عربية”.







