كتاب وشعراء

هامشُ النبوءة على كتفِ نافذةٍ تُهدهد لحمَ الغياب…بقلم عمران علي

لم تكنِ المرأةُ “بَهوكا قَلو” عندَ النّافذةِ تَجلسُ، بل تتكوَّرُ كما يتكوَّرُ ضِلعٌ مُنهَكٌ في جَسَدِ جُغرافيّا تُراجِعُ نَبضَها الأخير.
كانتِ النّافذةُ، بِعتبتِها الخَشِنةِ وغُبارِها المُنحدِرِ من أعلى الإطار، لَيسَت إطاراً لِرؤيةٍ، بل فَخذاً مُنساباً من الزَّمن، يمدُّ ظِلالَه على وجهٍ امتلأ بالتَّجاعيدِ كأنَّها ممرّاتٌ حفرتْها أمطارٌ قديمةٌ في لَحمِ الصخورِ.

وَجهُها، المُطلُّ من العَتمةِ، بدا كجَسَدٍ ينسحِبُ من عُمقِه شيئاً فشيئاً،
ليس انسحابَ هَزيمةٍ، بل انسحابَ كَتفٍ أنهَكتْهُ الأسئلةُ.
كُلُّ تجعيدةٍ فيه تُشبِهُ نُدبةً من مَعركةٍ لم تُروَ،
وكُلُّ ظِلٍّ فوق خَدِّها يُشبِهُ انحِرافَ عَضلةٍ تبحثُ عن مكانٍ أقلَّ ألماً داخلَ الحياةِ.

السِّتارةُ المُتهدِّلةُ بجانِبِها لم تكن قُماشاً، بل جِلداً شَفّافاً يُفصِلُها عن العالمِ.
جِلداً يرفرِفُ كلّما مرَّت ريحٌ خَفيفةٌ، كأنَّ الرِّيحَ تُلامِسُ فَخذاً بارِداً وتوقِظُ فيه ذاكرةً أُولى.
تتحرَّكُ السِّتارةُ ببطءٍ، حَرَكةً عُضويّةً، كأنَّها شَهِيقٌ طويلٌ لجَسَدٍ غيرِ مرئيٍّ يَحرُسُ النّافذةَ منذُ زمنٍ.

في الظِّلِّ الذي يُحاصِرُ كَتِفَيها، كان اللّيلُ يتدلّى مثل ظَهرٍ مُنحَنٍ،
يَمتدُّ ويتقوَّسُ حولَها،
كأنَّهُ يُحاوِلُ أن يُخفِي لَحمَ العُمرِ الذي اِنكسَرَ ولم يَصرُخ.
هُناك، في تلكَ العَتمةِ، كان يُمكنُ للمَرءِ أن يَسمَعَ صَوتاً خافِتاً
—لا هو تَنفُّسٌ، ولا هو حُزن—
بل شيءٌ أقربُ إلى ارتِجافِ ضِلعٍ يُحاوِلُ أن يَتذكَّرَ شَكلَهُ الأوَّل.

أمّا نَظرَتُها، فكانت نَظرَةً
لا تُراقِبُ الخارِجَ،
بل تَحفِرُه.
تَحفِرُ الهَواءَ كما يَحفِرُ الإصبَعُ جِلدَ الذّاكرةِ،
وتَبحثُ، في نُقطَةٍ ما خَلفَ الضَّوءِ، عن يومٍ لم يأتِ،
أو لم تُمنَحْ له فُرصَةُ الوُصولِ.

ليستِ امرأةً وحسْب.
إنَّها نُبوءةٌ مُتعَبَةٌ تَمُدُّ لَحمَها على النّافذةِ لِتختَبِرَ بُرودةَ العالَمِ.
جَسَدٌ يقِفُ على حُدودِ الكلامِ،
مُهَيَّأٌ لِلانكِسارِ أكثرَ ممّا هو مُهَيَّأٌ للبَقاءِ،
لكنَّهُ يَظلُّ واقِفاً بصَلابَةِ ضِلعٍ يَعرِفُ أنَّ السُّقوطَ لا يُلغِي شَكلَه،
بل يُعيدُ اختِراعَه.

ولو أنَّ الزَّمنَ اقتَرَبَ منها،
ومدَّ يَدَهُ إلى كَتفِها،
لرُبَّما وجدَ كَتفاً أصلَبَ من عُمرٍ بأكمَلِه.

ولو أنَّ الذّاكرةَ أرادَت أن تَستريح،
لَنامَت عند قَدَمَيها كما يَنامُ جَسَدٌ صغير في ظِلالِ أُمِّه.

هذهِ المرأةُ—
لا تَنتظِرُ أحداً.
ولا تُوَدِّعُ أحداً.
إنَّها تُقيمُ عندَ النّافذةِ
كأنَّها أُصبُعُ العالَمِ الموضوعُ على نَبضِه،
تَتَحسَّسُ الحياةَ لِتتأكَّدَ
أنَّها ما زالَت…
ولو ببطءٍ،
تَتَنفَّس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى