كتاب وشعراء

جوع القصيدة وشِبع الوعي: الشعر بين الافتراس والإبداع في نص د. ناديا حمّاد من سورية………..بقلم // حسن غريب أحمد من مصر

جوع القصيدة وشِبع الوعي:
الشعر بين الافتراس والإبداع في نص د. ناديا حمّاد

بقلم: حسن غريب أحمد
ناقد وشاعر وروائي مصري

مفتتح :

تعدّ القصيدة العربية المعاصرة مساحة للتجريب والتأمل الفلسفي في الذات والوجود. ومن بين النصوص البارزة، تأتي قصيدة «حين تجوع القصيدة» للشاعرة د. ناديا حمّاد، التي تتناول سؤالًا جوهريًا في الشعر: ماذا يحدث حين تجوع القصيدة؟
يطرح النص هذه التجربة من خلال سلسلة لوحات شعرية تمثل حالات مختلفة للشعراء، النساء والرجال، بين التيه والإبداع، بين الجوع الرمزي والانغماس في اللغة.
تهدف هذه الدراسة إلى تحليل البنية الفنية، الرموز، اللغة، والصورة الشعرية في النص، مع إبراز العلاقة الجدلية بين الشاعر والقصيدة، والفلسفة الوجودية التي تتضمنها.

أولاً: بنية النص وتعدد الأصوات:
تستند القصيدة إلى بنية مقطعية متتابعة، كل مقطع يمثل لوحة قائمة بذاتها، لكنها جميعًا مرتبطة بفكرة الجوع الرمزي للقصيدة.
من خلال هذه البنية، تظهر الأصوات المتعددة:

الشاعر المتأمل في الجنون.

الشاعرة القلقة والمتمرّدة على الحزن.

السباك العادي الذي يغرقه الشعر فجأة.

الشاعر الاقتصادي والمقهى البحري.

كل هذه الأصوات تعكس وجوه الشاعر الواحد في العالم، وتجعل النص سرديًا أكثر من كونه شعريًا تقليديًا، إذ يعتمد على السرد الرمزي للحالة الشعورية.

ثانياً: الجوع بوصفه استعارة مركزية:
الجوع في النص لا يقتصر على الحاجة المادية، بل يتعداها إلى:

الجوع المعرفي والوجداني.

الجوع الإبداعي الذي يحول القصيدة إلى كائن حي يلتهم عقل الشاعر:
“حين تجوع القصيدة، تأكل عقل الشاعر…”
هذا الانقلاب يضع الشاعر بين لذتين متناقضتين: لذة الخلق ولذة الفناء، وهو محور التجربة الشعورية في النص.

ثالثاً: حضور الأنثى الشاعرة

تقدم الشاعرة صورتين متقابلتين للأنثى:

1. الشاعرة القلقة: تحيك ثوبًا مقفّى لحماية حزنها، وتعكس حالة الانسداد الإبداعي.

2. الشاعرة الثلاثينية: تفك عرى أزرار القصيد، وتكتب بجسدها وحرارتها، ما يعكس تحرر اللغة وأنوثة الكتابة.
هكذا تتحول القصيدة إلى فضاء للمقاومة والتعبير الأنثوي، حيث تتحول اللغة إلى جسد ناطق بالوجود والإبداع.

رابعاً: المفارقة والتهكم الرمزي
تستخدم الشاعرة الحس الساخر والتهكمي في بعض اللوحات، مثل:
“شاعر اقتصادي ينعى راتبه الضئيل… صار يبيع أقواس قزح لبلاد بلا مطر…”
وتمثل لوحة “الشاعر الثمل” في المقهى نقدًا ذكيًا لصورة الشاعر الرومانسي التقليدية، لكنها لا تسقطه من إنسانيته.
المفارقة هنا تعمل على إبراز مأزق الشاعر بين الواقع المادي والخيال الإبداعي.

خامساً: اللغة والصورة الشعرية
لغة النص شفافة، تجمع بين:
النثرية التأملية.

المجاز البصري والحسي:
“يحصد القصائد من شعرها الممتلئ بالشمس والضوء.”
القصيدة لا تعتمد على الوزن التقليدي، بل على الإيقاع الداخلي والتكرار الرمزي للصور، ما يخلق موسيقى خاصة للنص.

سادساً: الرؤية الفكرية والجمالية

القصيدة تؤسس لرؤية فلسفية: القصيدة مرآة للوجود الإنساني بكل هشاشته وجماله.
وتطرح السؤال المركزي: من يكتب من؟ هل الشاعر يكتب القصيدة أم القصيدة تكتبه؟
وبذلك، تتحول اللغة إلى فضاء للتأمل الوجودي والفني في آن واحد.

رؤيتي النقدية في الختام :
تعدّ قصيدة «حين تجوع القصيدة» تجربة شعرية متكاملة تجمع بين الرمزية والفلسفة والحس النقدي للمجتمع والشعر ذاته.
الشاعرة د. ناديا حمّاد تظهر قدرة لافتة على تحويل المشهد اليومي إلى نص متعدد الطبقات، يمزج بين الحس الأنثوي، الفلسفة، والسخرية الإبداعية، ليقدم نصًا غنيًا في المعنى والموسيقى الداخلية.

المراجع والحواشي:
1. أدونيس، زمن الشعر – دار العودة، بيروت، 1978.
2. غاستون باشلار، جماليات المكان – ترجمة غالب هلسا، دار الشروق، 1984.
3. عبد العزيز حمودة، المرايا المحدّبة – من البنيوية إلى التفكيك، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1998.
4. صلاح فضل، من البنيوية إلى التلقي، دار سعاد الصباح، الكويت، 1992.
5. خالدة سعيد، حركية الإبداع، دار الساقي، بيروت، 1999م

——–
حين تجوع القصيدة

حين تجوع القصيدة
تأكلُ عقلَ الشاعر
يختل التوازن
يحاولُ التيهُ أن لا يخونَ الاتجاه
جدارُ الجنونِ منخفض
خلفه شاعرٌ يلوِّح بمفرداته
في الهواء
ليحدثَ عاصفةً هوجاء
ترمي بنا بعيدا
و نحن بكاملِ الانتشاء
**
صديقتي شاعرةٌ مسكونةٌ
بالقلق
تحيكُ ثوباً مقفّى
ترتديه حين يَعرى حزنُها
تقيسُ خصرَها النحيل
بقصيدةٍ مغلولة الأفق..
**

جاري السبّاكٌ كان يجهلُ معنى
القصيد
فجأةً تدفّقتْ نافورةُ شعرٍ
من شفتيه
لم تتوقفْ بعدها
أغرقَ الفضاءَ الأزرق…
***

أتذكّرُ شاعراً أضناهُ العشق
ظلَّ طوالَ هذا العمر الفسيح
يحجُّ إلى حقولِ حبيبته
يحصدُ القصائدَ من شَعرِها
الممتلئِ بالشمس والضوء .
لكنها غادرتْهُ
لتخضرَّ في مكانٍ ٱخر
و تركتْه غامقا
لا يشبهُ أحدا..
****

شاعرٌ آخر أثقلتْ روحَهُ
التابوهات المغلقة
خَنقتْه الانتماءاتُ الضيقة
والكتب الصفراء

كان يحْفِرُ بقلمه والناسُ نيام
نفقاً إلى الثقافات الأخرى
حيث الأفقُ الفسيحٌ للحريُة….

شاعرةٌ ثلاثينية
بأنوثةٍ فائضة
تفك عرى أزرار القصيد
تلعقُ الحروفَ بشبق
تتضرّجُ رقبةُ المعاني
بأحمرِ شفاهِها القاني ….


في المقهى البحري
شاعرٌ ثملٌ
مايزال يُقنعُ النادلةَ أنّها
جزيرة
وأنّ نهدَها قاطعُ طريق..


في ركن المقهى المنسي
شاعرٌ ” اقتصادي”
يَنعي راتِبَه الضئيل
الذي التهمتْه رغباتُه
صار يبيعُ أقواسَ قزح
لبلادٍ بلا مطر …

************ د. ناديا حمّاد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى