حمزه الحسن يكتب: : الوجه الآخر للحماقة

ــــ يستطيع أي أحمقٍ جَعل الأشياء تبدو أكبر وأعقد، لكنك تحتاج إلى عبقري شجاع لجعلها تبدو عكس ذلك”* ألبرت آينشتاين.
عند قراءة كتاب ” كيفية السفر مع سلمون” لعالم اللسانيات والروائي الايطالي أمبرتو إيكو مؤلف رواية” اسم الوردة” التي تحولت الى فيلم من بطولة الممثل شون كونري والممثل الأمريكي كريستيان سلاتر واخراج الفرنسي جان جاك آنود، وتتناول عالم الرهبان السري، والكتاب مساهمة في تحليل الحماقة، لفتت نظري عبارة” الحماقة الملهمة”.
يقول إيكو في مقدمة الكتاب:” هل بوسع المرء أن يشمئز مبتسماً؟ نقول: كلا إذا كان السخط وليد الخبث والرعب، ونعم إذا كان وليد الغباء والحماقة وبخلاف ما كان ديكارت يقول به. فإن الشيء الأعدل توزيعاً على وجه البسيطة هو ليس الحس السليم وانما الحماقة”.
التجربة تقول ان الحماقة ملهمة أحياناً كثيراً لأنها توقظ أكثر من تجارب الرتابة اذا تم النظر لها من مكان مختلف ومن زاوية مختلفة.
الذين يخدعونا ويكذبون علينا هم اكثر الناس الذين نتعلم منهم، ,وأكثر تدميراً لأنفسهم لأن الحياة الحقيقية ملغاة وهم في مسرح للخداع الذاتي باشكال تلاعب قذرة تفقدهم الاحترام الذاتي مع كآبة مزمنة وفراغ موحش وبحث مستنزف عن مكانة بطرق خاطئة وصناعة شخصية لكل فرد وعلاقة ومناسبة ثم قتلها وصناعة اخرى في دورة قهرية لا تنتهي ونوع من الانتحار الذاتي المقنّع.
هؤلاء صححوا لنا المفاهيم الخاطئة في أن كل شيء على مايرام وان الانسان كما تراه ولا شيء خلفه والحياة خط مستقيم بلا فخاخ ولا مصايد،
وان الوعود حقائق والابتسامات وثائق وان الكلمات مواثيق شرف لا تخفي شيئاً والحياة نزهة في حديقة.
مشكلة الحمقى انهم يعتقدون ان ردود افعالنا مطابقة لتوقعاتهم واننا نفكر ونشعر ونفرح ونتألم كما يفعلون هم وهذه من أوهام العقل المختل. مختل ليس فكرياً فحسب بل هو الاختلال البنيوي لعقل مصاب وجريح من المستحيل علاجه ــــــــــ لأن الحماقة أعيت من يداويها على قول المتنبي قبل علماء النفس ــــــــ لأنه ليس مرضاً نفسيا لكي يعالج بل هو عبارة عن انحطاط عضوي في كامل الشخصية وليس في جزء منها كعمارة واقفة على عمود معوج.
كنا نعتقد ان الباطن هو الظاهر وان السطح هو الاعماق بسبب تربية سطحية بريئة لكن هؤلاء ” الحمقى” جعلونا نفيق من تلك الغفلة بل الاغماء في حالات ،
ومنهم وليس من الكتب والحكماء والتجارب الواضحة تعلمنا أكثر مما كنا نعلم، وان ليس كل صدفة تحمل لؤلؤة وهناك صدفة جوفاء وذات خاوية واعماق منحرفة وان السطح ليس الداخل.
تعلمنا منهم ان حكايات الوحش أساطير ، فلم نر يوماً وحشاً، لكننا اكتشفنا ان الوحش قد يكون ساحراً وجذاباً وأنيساً في الظاهر،
هؤلاء ” الموقظون” علمونا ان المسرح ليس خشبة بل قد يكون شارعا أو بيتاً أو مكتباً أو حديقة أو أي مكان،
هؤلاء يعتبرون التلاعب انتصاراً والكذب موهبة والاحتيال فلسفة،
وعندهم حبكات مذهلة وفورية وصناعة شخصية مزورة ثم قتلها وصناعة اخرى وعلينا الاستمتاع بسرد تلك الحبكات.
أليس هذا ما نحتاجه في القص والحكاية؟ ومن أين إستمد شكسبير ملاحمه ودوستيفسكي رواياته الخالدة وامبرتو ايكو نفسه شخصياته والكاتب سرفانتس رواية دون كيشوت الرواية الاشهر في العالم؟
ألم تقل الروائية التشيلية إيزابيل الليندي:
” الأوغاد ألذ جزء في الحكاية”؟.
في كتاب” سيكولوجيا الحماقة لجان فرانسوا مارميون يقول” حاوِل أن تجادل الأحمق وستجد نفسك ضائعا داخل متاهة لا نهاية لها، فالأحمق يعرف كل شيء أفضل منك. والأسوأ من ذلك، أنك كلما حاولت إصلاح خطأ أحمق ما، عزَّزت أكثر شعوره بالاختلاف، سيكون بطل الخروج عن القطيع “.
إن ثقة الاحمق بنفسه لا حدود لها واعمق من حدود الكون لانها ثقة مزيفة بذات مزيفة وقد حسدهم الفيلسوف برتراند راسل على هذه الثقة بالقول:
“مشكلة العالم أن الحمقى والمتشددين واثقون بأنفسهم أشد الثقة دائما، أما الحكماء فتملأهم الشكوك”.
هذا هو الاختلال البنيوي لان عقل الاحمق يقدم رؤية مقلوبة ومشوشة لصاحبه يعتقد جازما انها حقيقة.
هذا النمط من الشخصيات يستقطب معه عالما واسعا بل قد يكون ملخصاً لمرحلة ورمزاً لها اذا تم التعامل معه بفن وذكاء وابتسامة أيضاً.
إن روايات نجيب محفوظ تضج بهذه الشخصيات التي ترسم صورة دقيقة لمصر في مراحلها المختلفة كـــــ” ميرامار” و” اللص والكلاب” و” الثلاثية” و” الشحاذ”و” يوم قتل الزعيم”و” القاهرة الجديدة” وغيرها وكل شخصية تعكس بانوراما واسعة من التاريخ والقاع الاجتماعي والسياسي.







