عدنان الريكاني يكتب وجعاً يلمع: قراءة في جمالية الانكسار قراءة نقدية في نص “سهم مكسور”…… بقلم رانية فؤاد مرنجية

يأتي نص “سهم مكسور” للشاعر عدنان الريكاني بوصفه رحلة في تضاريس الروح، نصًّا لا يكتفي باستحضار العاطفة، بل يسائلها، ويضعها تحت ضوء اللغة والذاكرة ليكشف هشاشتها وقوتها في آنٍ واحد.
هذا النص ليس وصفًا لحالة، بل مواجهة داخلية بين ذاتٍ تتوق، وغيابٍ يتعاظم، ولغة تبحث عن مدًى يحتمل ثقل الشعور.
بين الصفعة والحرير: افتتاحية تهزّ الوجدان
يفتتح الشاعر نصّه بصورة ذات طاقة عالية:
“يصفعني خلوة طيفك المخملي”
وهي صورة تجمع بين حدّة الصفعة ونعومة المخمل، لتقدّم للقارئ مفارقةً تُعرّف طبيعة العلاقة:
حضورٌ يتخفى، وغيابٌ لا يغيب.
بذلك يهيّئ الشاعر قارئه لنصٍّ لا يقدّم العاطفة مستقيمة، بل ملتوية مثل صدى قديم لم يهدأ.
الزمن بوصفه جسدًا يتعب
يتعامل النص مع الزمن باعتباره مادة ملموسة، لا مجرد سياق.
الرمل يقاس بالقلقلة، والثلج يحكّ سنواتٍ مجعّدة، وكأنّ العمر يترك نقوشه على الروح.
ليس هذا زمنًا عابرًا، بل زمن يجرح، يحتك، ويوقظ ما ظنّه الإنسان خامدًا.
هكذا تتحول لحظات العمر إلى شخوص تتكلم، وإلى ذاكرة تقف على حدود البكاء والنضج.
جسدية الصورة… كشف نفسي لا غواية
على الرغم من حضور الجسد في النص، فهو حضور رمزي لا وصفي.
فحين يقول الشاعر:
“أفتح أزرار رغبتي المتواطئة”
فإنه يعلن صراعًا داخليًا بين ما يريده القلب وما يخشاه العقل.
الرغبة هنا ليست شهوانية، بل عطش روحي عميق يبحث عن توازن مستحيل.
إنها رغبة لا تبتغي الجسد، بل تريد أن تستعيد ذاتها الضائعة في مرايا الحب.
الصورة الكونية… حين يصبح الغياب مشهدًا سماويًا
يعطي الشاعر لتجربته بعدًا كونيًا لافتًا:
“فتحمرّ شفاه السماء”
بهذا الانزياح، تتحول العاطفة من تجربة فردية إلى حدث كوني.
كأنّ الوجدان يلامس حدود الضوء، وكأنّ الألم يمتدّ ليصبح جزءًا من حركة كبرى في العالم.
هذه القدرة على تحويل المشاعر إلى فضاء كوني تمنح النص عمقه الخاص.
السهم المكسور… استعارة الجرح الذي لا يلتئم
يتجلّى العنوان داخل النص مرة واحدة، لكنها لحظة إشراق جوهرية:
“كأنني أرتقي إلى السماء بسهمك المكسور”
السهم المكسور رمز لعلاقة لا تكتمل، لكنه أيضًا رمز لقوة خفية تدفع الذات إلى الارتقاء.
إنه جرح يرفع، لا يهبط.
وجعٌ يضيء، لا يُطفئ.
بهذه الاستعارة، يضع الريكاني قارئه أمام حالة إنسانية من الانكسار المضيء.
بين الأنقاض والارتقاء… الذات التي تنهض من داخل سقوطها
في قوله:
“لا زلت أرتجف تحت أنقاضك”
لا يظهر الضعف بقدر ما يظهر الوعي.
فالأنقاض هنا ليست بقايا علاقة، بل طبقات نفسية تراكمت بفعل الغياب.
وارتجاف الذات تحتها ليس هشاشة، بل استعداد للنهضة.
إنه ارتجاف الإنسان الذي عرف الألم، فانفتحت بصيرته.
خاتمة… جملة تلخّص الوجود كله
يختم الريكاني نصه بعبارة دامغة:
“دونك غياب وموت بطيء”
هنا لا يصف المتكلم شعورًا، بل يقدّم تعريفًا وجوديًا للحياة ذاتها.
فالموت البطيء ليس النهاية، بل الخواء الذي يخلّفه غياب المعنى.
بهذه الجملة، يرفع الشاعر النص إلى مستوى إنساني واسع، يتجاوز التجربة الفردية إلى سؤال:
كيف نعيش حين يغيب من يمنح دواخلنا الضوء؟
خلاصة المقال
“سهم مكسور” نصّ يتقاطع فيه الوجدان مع الفلسفة، ويجمع بين الرهافة والحدة، وبين الارتباك والوضوح.
إنه نصّ يكتب جمالية الانكسار، ويكشف كيف يمكن للجرح أن يتحول إلى لغة، وللفقد إلى بصيرة.
بهذا العمق والصدق، يستحق النص أن يُقرأ، وأن يُنشر، وأن يتردد صداه في الصفحات الثقافية الجادة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ النص ..
سَـــــــهْمٌ مَكْسُــــوْر ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
يَصْفَعُنِي خَلْوَةُ طَيْفِكَ المَخْمَلِي
فَوْقَ صِرَّاطِكَ الصَّغِيْر ،
وَأنَا أقِيْسُ الرَّملَ بِحُرُّوْفِ القَلْقَلَةِ
وَشَــهْوَةِ الصَّيْفِ السَــاخِنْ ..
اليَوْمَ نَقِيْضُ أنَامِلُ أنْدَافِ الثَلجِ
يَحُكُ فَرّوَةَ رَأسِ سَنَوَاتٍ مُجَعَّدةَ
كُنْتُ أرَّاقِبُهُ بِرَّشَــــاقَةِ الضَوْءِ
كَلَوْحَةٍ تُنَازِعُ صَدَاهَا المُتْعَبِ
حِيْنَ يَنْسَابُ النُّوْرُ مِنْ مَسَالِكِ ظِلِهَا
يَصْقَلُ صَفَاءُ الادْرَّاكِ فِي الغَسَقِ
فَتَحْمَرَّ شِــــفَاهُ السَّــــمَاءْ ..
عَاشِـــــقٌ قُدَّتْ قَمِصُهُ مِنْ قُبُلٍ
وَتَنَهَّدَ لأشْرَبُ مِنْ رَّحِيْقِهِ كَوْثَرَّاً
يُوْقِظَ نَارُ الشَّــــوْقِ بِشَغَفٍ ،
خَلْفَ مَعْبَدُكَ الوَثَنِي أصَّلِي رَّعْشَّتِي
أفْتَحُ أزْرَارُ رَّغْبَتِي المُتَوَاطِئة ..
وَأتَخَيْلُ مَا بِدَاخِلِي مِنْ سُقُوْطِ للِمَطَرّ
يَكْفِي لإخْمَادِ ثَوْرَّةُ عَطَشِي ،
تَغَيْرَتْ مَفَاهِيْمُ الإكْسِيْرِ الأبْيَضِ
وَتَذَوَقْتُ حَلاوَتَهُ بِرُّطُوْبَةِ وَدِفْءِ لِسَانِي
لا زِلْتُ أرّتَجِفُ تَحْتَ أنْقَاضِكَ ..
دُوْنَ أنْ أفْهَمَ كَلِمَاتُكَ المُوْؤدَةِ بِالإثَارَّة
وَكَأنَّنِي أرّتَقِي الِىَ السَّـــــــمَاء
بِسَهْمِكَ المَكْسُوْر فَلا تَهْجَعْ بِغِيَابِي
وَأهْمُسْ بِمَشَّاعِرِكَ وَضَاجِعْ تُرّبَتِي ،
دُوْنَكَ غِيَــــابُ وَمَوْتٌ بَطِيْء .!







