التيار…بقلم ليلي عبدلاوي

كأن لأشعة الشمس أقواسا ترن وسط الأحلام، استيقظت آمال من نومها مضطربة الفؤاد، جالت بعينيها في الغرفة،انتبهت أن ما تعيشه حقيقة لا وهما،تمنت لو امتدت بها ساعات النوم قليلا لتنسى فظاعة المأساة ولو مؤقتا، هاهو طعم المرارة يعود إلى الحلق من جديد، يعذبها، يشل قدرتها على التفكير.
سنتان مرت،جفت دموعها منذ مدة،حل محلها وجوم دائم وعبوس مقيم بنظرات منكسرة.
أعادت تأمل قطع الأثاث،حاجيات والديها ماتزال كما تركاها،كأنهما غادرا البيت في نزهة قرب البيت وسيعودان.
تعمدت الاحتفاظ بها رغم احتجاج أفراد العائلة:
-ماذا ستفعلين بأشياء تؤجج في قلبك نيران الحزن؟
بحركات آلية،تستسلم لخطواتها في هذا الفضاء الكبير،تعيش حياة أخرى داخل الحياة،تؤدي واجبات منزلية ثقيلة على الروح والقلب،تعد طعاما تتناوله من أجل البقاء لا أكثر،في أحايين كثيرة، ينتابها فيض من ندم، ماذا لو وافقت على مرافقتهم في تلك الرحلة المشؤومة؟
استحضرت والدتها وهي تزيح عنها الغطاء في ذلك الصباح البارد:
– آمال، هيا انهضي وكفى كسلا، الثلوج تملأ الحقول والغابات، ستمرحين كثيرا وتأخذين صورا للذكرى.
لاتفهم الآن لماذا تشبثت يداها بالغطاء، لماذا رفضت القيام لماذا عاندت بتلك القوة
ثم الصوت الذي بلغنا وهي تستسلم لنوم عميق،آه من ذلك الصوت! نظرت إلى الباب الخارجي، تخيلت يد والدتها وهي تغلقه عليها،ثم صوت سيارة تبتعد،كان ذلك آخر تواصل معهما.
خرجت إلى الشرفة، رنت إلى السماء، تأملت السحب المسافرة في الأفق، هي نفس السماء التي شهدت مصرع والديها في ذلك المنحدر السحيق، يارب! متى السبيل إلى النسيان؟ لفت انتباهها سرب من طيور مهاجرة،أتبعتها بعينين ذابلتين، ودت لو استطاعت أن تحملها شجونا، تسافر بها إلى وجهة مجهولة .
تنبهت إلى أن وقفتها في الشرفة قد طالت دون أن تشعر، أطلت إلى الأسفل حيث كانت الحياة في الزقاق قد دبت منذ ساعات.
هكذا اصبحت تحلق طويلا في عوالم غريبة، متوحدة بمصائرها الهاربة منها،تشعر أن شيئا لابديل له تصدع بطريقة يستحيل معها الترميم.
” ترى لماذا يقتحم هذا الألم كُل محاولاتها للنجاة ؟ !
سمعت طرقا على الباب، أمر غريب، فهي لا تكاد تزور أحدا ولا يزورها أحد،ألقت بنظرة عفوية إلى المرآة المعلقة في المدخل فتحت الباب، كانت الزائرة عمتها التي تقطن بفرنسا يرافقها ابنها المهندس،احتضنتها بحنان، بينما اكتفى الشاب الملتحي بإيماءة من بعيد.
– آمال، أين أنت يا ابنتي؟ لم تغلقين على نفسك هذا البيت، ألا يكفيك كل هذا الحزن؟
وهي في المطبخ تعد صينية الشاي، تناهت إليها أصداء وشوشة: –
– والآن مارأيك؟ألم أقل لك أن آمال كبرت وأصبحت ذات عقل وجمال،لم يستطع الحزن أن ينال من حسنها شيئا،ثم إنها ورثت عن والديها هذا البيت الفاخر.
وضعت الصينية على طاولة المطبخ،شرعت في إعداد الشاي، تناهت إليها وشوشة الزائريْن،امتزجت في ذهنها بذكرى هدير البحر، في شاطيء ناء و فارغ.
أغمضت آمال عينيها مليا،استسلمت لتيار جميل بارد يسحبها بمتعة جارفة الى الشاطىء الآخر …







