حمزه الحسن يكتب :المستقبل هو الآن

لماذا فشل الادب في توقع مرحلة ما بعد الدكتاتورية والاحتلال واكتفى بوصف خراب النظام ثم وصف خراب الاحتلال كما تفعل وسائل الاعلام؟ ما الذي جعل الادب عاجزاً عن توقع المستقبل كما هو في الاداب العالمية يوم توقع كتاب وروائيون مستقبل بلدانهم كما حدث كمثال مع الروائي الروسي الكسندر سولجنتسين اوائل سبعينات القرن الماضي في روايته” أرخبيل غولاغ” التي نشرت خارج الاتحاد السوفيتي وتوقع انهياره في قمة جبروته بعد فرار الكاتب واعدام صديقة له كانت ساعدته في كتابة نسخة احتياطية على آلة كاتبة وحصوله جائزة نوبل؟ سولجنستين ليس حالة استثنائية.
خلال مباحثات الحد من الاسلحة الاستراتيجية بين الرئيس السوفيتي برجنيف والرئيس الامريكي نيكسون فوجئ نيكسون قبل المباحثات بطلب غريب من برجنيف هو المساعدة في تشويه صورة الروائي سولجنستين على انه مجنون هو اللاجئ في امريكا وهي التهمة التقليدية للاحزاب الشيوعية كافة للمثقفين والكتاب المختلفين، فرد عليه نيكسون، ضاحكا، بعد ان كان قد توقع طلبات صعبة تتعلق بالصواريخ النووية:
” الصحافة الأمريكية لا تخضع لقرارت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي”.
لا يعرف برجنيف ان هذه التهم لا تمشي في بيئة اوروبية بل تمشي في بيئة شرقية لا تفحص ولا تسأل ولا تشك ومن يقرأ الغلاف الخلفي لرواية سولجنستين عن دار المدى ” يوم في حياة إيفان دينيسوفيتش ” عن معتقلات المثقفين والمختلفين، سيجد بعض أصداء تلك الحملة في ان الروائي أرثوذوكسي متعصب دينياً مع انه آخر ورثة دوستويفسكي.
إن اتهام الكتاب والمفكرين بـالجنون أو استخدام المستشفيات النفسية (Psikhushka) من قبل الاحزاب الشيوعية كأداة للعقاب كان تكتيكًا منهجيًا وواسع الانتشار من قبل كل الاحزاب الشيوعية كافة ومارسه الحزب الشيوعي العراقي بأحط الطرق الرخيصة وصلت الى معارات سوقية صبيانية تتعلق بالسوية واعراض المختلفين معهم في بيئة شرقية تجفل من هذه الامور الحساسة لم يسلم منها حتى الشاعر بدر شاكر السياب. هذه الممارسة كانت تهدف إلى:
نزع الشرعية الفكرية والاخلاقية كما حدث ايضا مع الشاعر يوسف برودسكي الحائز على نوبل عام 1987 الذي أعتقل بتهمة غريبة هي” التطفل الاجتماعي” بعد ارساله الى مصح عقلي لتحطيم صورته في نفسه وتهمة التطفل والجنون لكل من يرفض ان يكون ببغاءً في قفص.
قضية اتهام المثقفين بالجنون والمصحات النفسية الاجبارية بما في ذلك الكهرباء بحجة اعادة تصحيح الوعي التي تسببت في قتل الالاف وانتحار اخرين تحدث عنها البروفسور الروسي كوياجين في كتابه” مرضى رغماً عنهم” وهو كان أحد أطباء تلك المصحات الجهنمية وكتابه اعتراف واعتذار منه بخيانة القسم من قبل الاطباء السوفيت والمساهمة في تحويل الطب الى سياسة وقتل أبرياء.
هناك ايضا الكاتب المفكر فلاديمير بوكوفسكي وكان من أوائل من كشف استعمال الطب النفسي لاغراض سياسية في الاتحاد السوفيتي بعد سنوات قضاها في مصح عقلي اجباري مغلق، كذلك عالم الكيمياء سيرغي كوفاليوف الذي كان صاحب اغرب تهمة سريالية في التاريخ هي رسميا” جنون الاصلاح” لم تنفع كل اجهزة الكهرباء في تغيير افكاره واعتبرت المقاومة النفسية وثبات الاحاسيس “عناداً رجعياً” يجب أن يتحطم.
من غير ادباء وعلماء وفلاسفة انتحروا او تم اعدامهم علنا في المرحلة الستالينية مثل إسحاق بابل شاعر وكاتب قصص اعدم رميا بالرصاص عام 1938 و نيكولاي بوخارين فيلسوف ماركسي وشيوعي اعدم عام 1938 و غينريخ ياغودا شيوعي قيادي اعدم عام 1933 بتهمة ملفقة ثم توسعت التهم لتشمل تهمة التروتسكية وحتى تروتسكي نفسه قائد الجيش الاحمر اغتيل في منفاه في المكسيك من قبل كي جي بي المخابرات السوفيتية.
هذا العجز عن كشف المستقبل مستمر حتى اليوم مع ان الصورة أوضح وكل ما يجري هو وصف الواقع الذي يعرفه الناس أفضل من الكاتب في حين يحتاجون رؤية طريق المستقبل. ما هو السبب الجوهري؟ عطب معرفي أو عطب خيال؟ الوصف يتعلق بالذاكرة والذاكرة استعادة لكن الخيال خلق وابداع وهو أهم من المعرفة لانه يشمل الكون بتعبير البرت آينشتاين.
ما حدث ليس حتمياً وما يحدث اليوم ليس أبدياً وكان يمكن ان يحدث بطرق اخرى لان تاريخ البشرية تاريخ نزوات وحماقات واهواء ومصالح وليس كقوانين طبيعية.
التاريخ البديل alternative history هو نوع أدبي يقوم على قلب التاريخ الواقعي مبني على فكرة” ماذا لو؟” وكيف سيكون التاريخ لو لم يقع بهذه الصورة،
كقصص الخيال العلمي والرواية وأقدم مثال للتاريخ البديل ما كتبه المؤرخ اليوناني تيتوس ليفيوس متخيلاً تاريخاً بديلاً للقرن الرابع قبل الميلاد،
ونجاة الاسكندر المقدوني وغزوه أوروباً.
أشهر رواية للتاريخ المضاد أو البديل رواية 1984 جورج أورويل وتحدث فيها عن نظم رقابية صارمة شمولية مع انها كتبت عام 1948 لكنه قلب العنوان.
من روايات التاريخ البديل روايات بول أوستر وخاصة” رجل في الظلام” عن حرب لم تقع في العراق وعن برجين لم يسقطا وحرب اهلية في امريكا ــــ وهي الرواية التي عملت تناصاً معها في رواية : تاريخ مضاد”.
كتب الروائي السويدي ستيغ لارسن ثلاثيته ميلينيوم Millennium وكان يخطط لكتابة عشرة أجزاء، لكنه بعد الجزء الثالث وخلال صعوده سلالم الطابق العاشر لتوقف المصعد تعرض لنوبة قلبية مميتة،
وظهرت ثلاث روايات فقط: (فتاة لا يحبها الرجال – فتاة لعبت بالنار – فتاة في عش الدبابير) وكانت الشخصية الرئيسة في الروايات الثلاث اليزابيت سالاندر وشخصية الصحافي ميكائيل بلو مكفيست الباحث عن الحقيقة،
مع ان الشخصية الروائية في الرواية العربية تموت في الجزء الاول ولا تظهر في اجزاء أخرى عكس تقاليد الرواية العالمية.
كان لارسن أول روائي رصد تصاعد العنف والتطرف في المجتمع السويدي وقد تحققت توقعات لارسن اليوم في عصابات المافيا والجريمة المنظمة والتطرف هز طمأنينة هذا المجتمع الآمن بشكل غير مسبوق.
كان يكتب بعد العودة من العمل في المساء ولم ينشر رواية في حياته بل يكتب لكي يتمتع لكن ما كشفته عنه رواياته هو نبوءة لما سيتحقق في السويد ودول الشمال الاوروبي الاسكندنافية بعد سنوات كما كتب الروائي واسيني الأعرج عن لارسن:
” من عنصرية وتطرف وفوبيا الأجنبي، التي رسخها اليمين المتطرف، في ظل أزمات اقتصادية غير مسبوقة، أثبتت السنوات التي تلت منجزه الروائي صحة ما كان مجرد افتراضات.لقد كانت «ملينيوم» استباقياً أدبياً واجتماعياً بامتياز”.
” نكاد لا نصدق ما يحدث اليوم في أوروبا الشمالية من تغيرات فرضتها شروط اليمين المتطرف الصاعد وتواطؤات الساسة، على المستوى العالي في هرم السلطة، للحفاظ على بقائهم في دوائر الحكم. فقد كشفت لنا «ملينيوم»، اللوحة الخفية لمجتمعات أوروبا الشمالية اليوم ”
من مقال:الروائي واسيني الأعرج :الأدب الاستباقي في ثلاث حلقات عن ستيغ لارسن.
ستيغ لارسن كان غاضباً رغم الرفاهية والليبرالية المتطرفة في الحقوق الفردية وضمانات الحياة لكنه كان يرى خلف كل ذلك يكمن خطر ظهور قوى ونزعات وتيارات متطرفة وجماعات عنف مسلح وهو ما ظهر فعلا في السويد في السنوات الأخيرة.
لارسن كان يرى الواقع المحجوب خلف المظاهر رغم ان الواقع الخارجي يلوح مدهشا وجميلاً وساحراً وعادلاً لكن هذه ليست كل الصورة، هناك شيء ما لا نراه واضحاً خلف الواقع الظاهري.
لا يقترب القارئ العربي من الأدب الاسكندنافي المنشغل بقضايا انسانية وهو يختلف عن الأدب الأوروبي حيث النظرة الاستعلائية والنظر للعالم من خلال المركزية الأوروبية Eurocentrism وهي نظرة طبقية عنصرية ترفض الثقافات الأخرى.
الأدب هو إستباق، وتحذير، واستشراف وليس نشرة أخبار عن كوارث وأحداث يعرفها الجمهور الذي يريد أن يعرف ماذا سيحدث.
لم يصغ المجتمع السويدي لصيحات لارسن ولم تُقرأ رواياته بجدية وعمق إلا بعد صعود التطرف والمافيا والعنف فيه في السنوات الأخيرة:
هذا هو الأدب لا يرتبط بالزمن بل بالأصالة.
أدب وصف الكوارث بعد وقوعها لعطب في الرؤية وعجز معرفي في استشراف المستقبل هو الشائع عندنا.
التاريخ ليس خطاً مستقيماً بل نزوات وحماقات ومصادفات خاصة تاريخنا لعبت أدواراً في صناعة أحداث دامية حتى اليوم.
كثيراً ما يسخر التاريخ. لا ينقصنا الذكاء بل ينقصنا الخيال والخيال أهم من الذكاء لان الخيال بلا حدود. لماذا نفصل التخيل عن المعرفةوهو أهم من المعرفة لأنه يشمل العالم؟
عام 2000 نشرنا أربع روايات تتحدث بلغة واضحة وصريحة عن حريق قادم وصراع مسلح بعد سقوط الدكتاتورية : رواية :
” سنوات الحريق، رواية المختفي، سيرة ذاتية روائية الأعزل، رواية عزلة أورستا: سرقوا الوطن، سرقوا المنفى”.
وكما لو أن تخيل المستقبل جريمة في منفى، اندلعت حملة عواء لم تتعرض مطلقاً لعبارة واحدة من هذه الروايات وبلا أي مناقشة بل انصبت حفلة الردح على المؤلف الشخص وترك النص لأن مناقشة النص تحتاج الى كفاءة ونزاهة وقدرة ومعرفة نقدية وهي غير متوفرة لكن الشخصنة لا تحتاج كل ذلك بل لغة سوقية تتداخل فيها مفردات السب والشتم تداخل أنياب الكلب بقشرة تقدية باهتة.
البعد المستقبلي الثالث غائب تماما من أدبنا مع أن المستقبل هو تراكم الماضي والحاضر ومع ذلك عدنا الى رؤية توقع المستقبل في عملين روائيين العام الماضي: رواية : ولادة الذئب، ورواية تاريخ مضاد، وفي الطريق تحت الطبع : حفل البرابرة ـــــــــــــــ ستنشر على موقع أمازون الاثنين القادم طبعة الكترونية ــــــــ ورواية” أعوام السوء: ما لم يرو” وهي من أدب السيرة الذاتية المفتوحة.
ــــــــــــــ الصورة: سلسلة ميلينيوم هي سلسلة من الروايات الأكثر مبيعاً للكاتب السويدي ستيج لارسون، في الأصل، عشرة كتب كان مخطط لها لكن ثلاث فقط تم الانتهاء منها. روايات السلسة، الفتاة ذات وشم التنين، الفتاة التي لعبت بالنار.







