رؤي ومقالات

د.كمال مغيث يكتب :مايحدث فى التعليم (1من2)

عندما كف التعليم عن أن يكون مشروعا وطنيا
جاء الحادث الفاجع لاغتصاب أطفال المدرسة الدولية من قبل عاملين فى نفس المدرسة ليثير غضب الناس والإعلام والمطالبة بالاقتصاص من هؤلاء المجرمون وطرح حلول واقتراحات لحماية أولادنا فى المستقبل
غير أننى هنا أريد أن أتناول الموضوع من زاوية مختلفة، زاوية التعليم نفسه كمشروع وطنى والمدرسة باعتبارها التجسيد العيانى والمباشر لهذا المشروع الوطنى
بدأ التعليم المصرى الحديث فى عهد محمد على (1805-1848) كأول جزء من مشروعه الوطنى الذى استهدف أن تكون مصر دولة حديثة قوية تناوئ تركيا وتواجه الأطماع الأوربية، فأرسل أولى بعثاته لتعلم الصنائع والفنون إلى إيطاليا سنة 1811، بمجرد ان استتبت له الظروف الداخلية فى البلاد، وتوالى إرسال البعثات إلى أوربا، ثم إنشاء المدارس المخصوصة والتجهيزية واللابتدائية، وكان التعليم كله بالمجان بل كان المتميزون من الطلبة يحصلوا على مكافآت تشبه مكافآت التفوق فيما بعد، وكان محمد على يحرص بنفسه على متابعة المدارس والتدخل فى المقررات والنظام وتلقى التقارير عن طلاب البعثات بصفة مستمرة
وفى زمن الخديو إسماعيل (1863-1879) كان هناك توجها لعمل مشروع قومى للتعليم فيما سمى بقومسيون التعليم أو لائحة رجب،
وفى زمن الخديو توفيق (1879-1892) نظم التعليم الثانوى (التجهيزى) وكان الخديو وكبار رجال الدولة وأعلام البلاد، يحضرون الامتحان الشفوى للطلاب وإعلان نتائجهم – إذ كان الطلاب يمتحنون تحريريا فى مدارسهم ومن يجتاز بنجاح الامتحان التحريرى يحق له ان يمتحن شفويا – فى مسرح كبير ومن ينجح منهم تعلن نتيجته فورا وتعزف له فرقة الموسيقى الخديوية ويصافح الخديو ويحصل على مكافأة منه
ولكن الاحتلال البريطانى عطل كل شئ، بل سعى إلى صبغ التعليم بصبغة إنجليزية، وهو ما جعل التعليم يصبح مع الدستور أول أولويات الحركة الوطنية وكانت الجامعة الأهلية 1908، تتويجا لتلك الجهود الوطنية، وبعد ثورة 19، أصبح التعليم وتطويرة فى قلب اولويات الحركة الوطنية، يحتل الطلاب مكانة محترمة فى الوجدان الوطنى وكان المعلمون مهابون وكان الكثير من نظار المدارس يحصلون على لقب بك كما كان الكثير منهم ممن حصلوا على شهادات الماجستير والدكتوراة من أوربا، وكانت الجامعة المصرية تضم طلابا من مختلف بلاد العالم، وعندما نقرأ السير الذاتية لأساتذتنا الذين كانوا فى المدرسة الثانوية فى ذلك الوقت بتفاجأ بهذا المستوى العلمى والثقافى المتقدم والأنشطة المتنوعة والامتحانات الصارمة،
وفى ظل ثورة يوليو (1952-1970) ظل التعليم أساس المشروع الوطنى والاعتماد على خريجيه لقيادة خطط التنمية المستقلة وعلى الرغم من تحقيق مجانية التعليم بالكامل حتى الدكتوراة، إلا أن التعليم ظل منضبطا فى نظامه وامتحاناته وإدارته وظل المعلمين محترمين مكتفين ماديا، ويكفى أن أقول: أن مرتب المعلم فى بداية حياته الوظيفية كان يبلغ نحو 17 جنيها، فإذا كان جرام الذهب عيار 21 وقتها يقل سعره عن جنيه واحد فإن هذا المدرس يعتبر مرتبه بأسعار اليوم يعادل أكثر من ثمانين ألف جنيه لاحظ فى بداية حياته الوظيفية، ولأن المدارس كانت منضبطة تمارس فيها عملية تعليمية ناجعة فإنه لم تكن هناك ظاهرة الدروس الخصوصية إلا فى القليل النادر، وظلت الأنشطة والرحلات التعليمية حية زاخرة، ولم تعرف مدارسنا فى الستينيات “الفترة الثانية” إلا بعد هزيمة 67، واضطرار ملايين من سكان محافظات القناة للهجرة إلى الداخل وتوجيه معظم الإنفاق للأغراض العسكرية، ورغم هذا ظلت المدرسة مبنى بسيط ولكن ذى مصداقية مهاب ومحترم ومحترم معلميه ومديره، لا يجرؤ ولى أمر أن يدخله ليتخانق مع معلمية ويصيح بالسب والشتم، بل وكنا نحن التلاميذ نعاقب لو صدر منا شتائم بذيئة
وجاء السادات (1970-1981) الذى لم يكن مؤمنا بتوجه عبد الناصر الوطنى ذو الملامح الاشتراكية، فقل الإنفاق على التعليم المجانى، وذادت أعداد المدارس ذات الفترتين والثلاث فترات، فقلت ساعات اليوم المدرسى وتدهورت العملية التعليمية فاضطر الناس لتعويض هذا التدهور بالدروس الخصوسية ومع عودة الفنيين والتكنوقراط ممن ذهبوا للعمل بالخليج راحوا يتساءلون لماذا نرسل أولادنا إلى مدارس لا تعلمهم ونعيد تعليمهم على حسابنا فى البيوت مساءا؟ لماذا لا نفتح لهم مدارس خاصة بمصروفات؟ وراحت المدارس الخاصة تنشأ وتتعدد ولأن التعليم كف عن أن يكون مشروعا وطنيا فى ظل سلطة السادات، ولأن السادات تصور أنه بالانفتاح الاقتصادى وإطلاق قوى السوق الحرة وإفساح المجال لرأس المال للعمل والكسب، فإنه قد أقر أن تكون المدرسة مجرد مشروع تجارى كأى محل بقالة أو أى ورشة أو مزرعة دواجن، قأصبحت كثير من المدارس مجالا للنصب والتزوير والكذب والغش والاحتيال ..ومن هنا انفتح الباب واسعا أمام تخريب التعليم الذى أوصلنا إلى هذا الحادث المريع ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى