كتاب وشعراء

كحيرتها الأولى….بقلم عمر لوريكي

كحيرتها الأولى، صارَت تَحْذِفُ مِن ذاكِرَتي البَعيدَةِ ما يَجْذِبُني لِمَجازِها؛
ها أَنا ذا شاخِصًا مُتَأَمِّلًا مُسْتَغْرِقًا وَغارِقًا في يَمِّ عَيْنَيْها الخضراوين، أُحاذيها في مائِها الصّافي بلا نُدوب، وأَصْمُدُ ما شِئْتُ مِن قَساوَةِ تَقَلُّبِ خاطِرِها، أَرْنُو إِلى انْتِشالِها مِن عُزْلَتِها الَّتي أَرْغَمَت نَفْسَها عَلى خَوْضِها، وَحَسبَ ما أَرى لا عِلَّةَ لَها إِلّا ظُنونُها الَّتي اسْتَشْكَلَ عَلَيَّ إِيجادُ أَصْلٍ لَها فِي انْطِباعاتي وَكِتاباتي عَنْها.
ها أَنا ذا أسْرِقُ مُتَثاقِلًا، مُتَرَدِّدًا، وَمُتَأَبِّطًا رِسالَتَها المبْتورَةَ، زِيارَةً أُخْرى لِمساحاتِها الْبارِدَةِ، لِكَيْ أَمْنَحَها من الدفء ما تَسْتَطيعُ مِن خِلالِهِ الانْبِعاثَ مُجَدَّدًا رَغْمَ أَنَّ الآتي لَنْ يَسُرَّ وقْفَتَها هذِهِ في جَميعِ الأَحْوال.
صَوْتُها كَموسيقى رَقيقَةٍ رَنّانَةٍ مُمتَزِجَةٍ بِتَدَلُّلِ الرَّغَباتِ الْباطِنِيَّةِ الَّتي حَوَّلَتْها لِهذِهِ الأَيْقونَةِ مِن الطِّيبَةِ وَجَعَلَتْ مِن سابِعِ الْمُسْتَحيلَاتِ أَنْ أَقْبَلَ الإِغْراءَ مِن أُخْرَى فِي أَيّامِها الْمَعْدودات…
وَصَلْتُ أَمْكِنَتَها وَارْتَدت امْتِزاجَ رُوحَيْنا مَعًا؛ أُطيعُها كَما يَنْبَغي، أَسْتَنْشِقُها بِتَأَنّ لِأَتَذَوَّقَها، أحْضنُها لِأُؤولَ أَحْلامَها رُبَّما إِنِ اسْتَطَعْتُ، أُطالِعُ رُموزَها لِأَدْفَعَها نَحْوَ الْعَوْدَةِ لِثَقافَتِها وَنِسْيانِ هذا التَّدَحْرُجِ الْمُفاجِئِ غَيْرِ مَحْمُودِ الْعَواقِب… ثُمَّ جَلَسْتُ عَلى مَقْربَةٍ مِن نافِذَتِها الْخَشَبِيَّةِ الْحَمْراءِ، كَالصُّورَةِ الأُولَى الَّتي أَلِفْتُها وَلازِلْتُ أَذْكُرُها بِها.
كانَتْ فِي اضْطِرابٍ كَبيرٍ، تَحْمِلُ فَراغَ النِّهاياتِ في جَوْفِها، وَهِي تُقَرِّرُ الْقُدومَ بِنَفْسِها لِمَكاني لِنَقْلِ خَبَرِ هذا الْهِيَامِ الَّذي زَيَّنَها وَزَخْرَفَ صَدْرَها وَوَجْهَها بِأَجْمَلِ ما فاضَ مِن طَبيعَةِ شوتبوص حَوْلَها.
قالَتْ لي: أَلا يَكْفيكَ تِكْرارُ التَّلاشي وَاعْتِيادُ النِّسْيانِ لِأَكْرَهَكَ!
بَقِيتُ شاخِصًا دُونَ جَواب! ثُمَّ نَبَسْتُ بِعِدَّةِ عِباراتٍ لخاطري دون جدال معها…تَذَكَّرْتُ مِنْها أَنَّني قُلْتُ: صِرْتُ، كَما تَرَيْنَ، أَقْبَلُ مِنْكِ حَذْفَ هُدوئي بِحَيْرَةِ الانْجِذابِ إِلَيْكِ!
ها هِي تُضاعِفُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ مِن طَلَباتِها ما يَجْعَلُني أَفْقِدُ وجهتي وذاكِرَتي الْبَعيدَةَ الْمُكْتَظَّةَ بِأَشْياءَ كَثيرَةٍ، من عقبات فشل الأيام، لا تَسْتَحِقُّ إلا الْحَذْفَ، وَأَخْتَلي مَعَها بِذاكِرَتي الْقَريبَةِ الْمَليئَةِ بِها وَفَقَط. تُجْهِدُ نَفْسَها عَساها تُحَوِّلُ لا مَعْنَى هذا الْماضي الَّذي انْبَثَقَ مِن خَيباتِ التموضع، سيء الاختيار، الَّذي أُرْغِمت عَلى مَنْحِهِ بضْعًا مِنّي وَلَمْ يَمْنَحْني، لِلأَسَفِ، غَيْرَ الِانْدِثارِ هَدِيَّةً مَسْمومَةً أَفْقِدُ عَلى إِثْرِها رُوَيْدًا رُوَيْدًا كَيْنونَتي وَمَعْرِفَتي وَقُدْرَتي عَلى التَّفْكيرِ الْمُطْلَقِ وَالاسْتِقْلالِ بِماهيَّتي ومهاراتي وَالتَّعَرُّف عَلى نَفْسي قَبْلَ أَنْ تَجْهَلَني في زمن غير زمنها وَأَضيعَ بالتالي كَما ضعْتُ وَأَتَظاهَرَ بِأَنَّني لا أُصَدِّقُ صَدايَ أَبَدًا…
يتبع…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى